الأغاني - (ج 1 / ص 15)
ثانياً من زمام وجناء عنسٍ ... قانياً لونها يخال خضابا
جدها الفالج الأشم من البخ ... ت وخالاتها انتخبن عرابا
الشعر لعمر بن أبي ربعية. والغناء لابن سريج، وله فيه لحنان: رملٌ بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وخفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو.
صوت
منع الحياة من الرجال ونفعها ... حدقٌ تقلبها النساء مراض
وكأن أفئدة الرجال إذا رأوا ... حدق النساء لنبلها أغراض
الشعر للفرزدق، والغناء لمعبدٍ ثقيلٌ أول عن الهشامي: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن سياطٍ قال حدثني يونس الكاتب قال:
رحلة معبد إلى الأهواز
وما وقع بينه وبين الجواري المغنيات بالسفينة كان معبد قد علم جاريةً من جواري الحجاز الغناء - تدعى " ظبية: - وعني بتخريجها، فاشتراها رجلٌ من أهل العراق فأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فاشتراها رجلٌ من أهل الأهواز، فأعجب بها وذهبت به كل مذهب وغلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان وأخذ جواريه أكثر غنائها عنها، فكان لمحبته إياها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبدٍ وأين مستقره، ويظهر التعصب له والميل إليه والتقديم لغنائه على سائر أغاني أهل عصره إلى أن عرف ذلك منه. وبلغ معبداً خبره، فخرج من مكة حتى أتى البصرة، فلما وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك اليوم إلى الأهواز فاكترى سفينةً. وجاء معبدٌ يلتمس سفينةً ينحدر فيها إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، وليس يعرف أحد منهما صاحبه، فأمر الرجل الملاح أن يجلسه معه في مؤخر السفينة ففعل وانحدروا. فلما صاروا في فم نهر الأبلة تغدوا وشربوا، وأمر جواريه فغنين، ومعبدٌ ساكتٌ وهو في ثياب السفر، وعليه فروٌ وخفان غليظان وزيٌ جافٍ من زي أهل الحجاز، إلى أن غنت إحدى الجواري:
صوت
بانت سعاد وأمسى حبلها انصرما ... واحتلت الغور فالأجزاع من إضما
إحدى بليٍّ وما هام الفؤاد بها ... إلا السفاه وإلا ذكرةً حلما
- قال حماد: والشعر للنابغة الذبياني. والغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالبنصر، وفيه لغيره ألحانٌ قديمة ومحدثة - فلم تجد أداءه، فصاح بها معبد: يا جارية، إن غناءك هذا ليس بمستقيم. قال: فقال له مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو؟ ألا تمسك وتلزم شأنك! فأمسك. ثم غنت أصواتاً من غناء غيره وهو ساكتٌ لا يتكلم، حتى غنت:
صوت
بابنة الأزدي قلبي كئيب ... مستهامٌ عندها ما ينيب
ولقد لاموا فقلت دعوني ... إن من تنهون عنه حبيب
إنما أبلى عظامي وجسمي ... حبها والحب شيء عجيب
أيها العائب عندي هواها ... أنت تفدي من أراك تعيب
- والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر، والغناء لمعبد ثقيلٌ أول بالسبابة في مجرى البنصر - قال: فأخلت ببعضه. فقال لها معبدٌ: يا جارية، لقد أخللت بهذا الصوت إخلالاً شديداً. فغضب الرجل وقال له: ويلك! ما أنت والغناء! ألا تكف عن هذا الفضول! فأمسك. وغنى الجواري ملياً، ثم غنت إحداهن:
صوت
خليلي عوجا فابكيا ساعةً معي ... على الربع نقضي حاجةً ونودع
ولا تعجلاني أن ألم بدمنةٍ ... لعزة لاحت لي ببيداء بلقع
وقولا لقلبٍ قد سلا: راجع الهوى ... وللعين: أذري من دموعك أودعي
فلا عيش إلا مثل عيشٍ مضى لنا ... مصيفاً أقمنا فيه من بعد مربع
الأغاني - (ج 1 / ص 16)
- الشعر لكثير، والغناء لمعبد خفيف ثقيلٍ بالسبابة في مجرى الوسطى، وفيه رملٌ للغريض - قال: فلم تصنع فيه شيئاً. فقال لها معبد: يا هذه، أما تقوين على أداء صوت واحد؟ فغضب الرجل وقال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجهٍ ولا حيلةٍ! وأقسم بالله لئن عاودت لأخرجنك من السفينة، فأمسك معبدٌ، حتى إذا سكتت الجواري سكتةً اندفع يغني الصوت الأول حتى فرغ منه، فصاح الجواري: أحسنت والله يا رجل! فأعده. فقال: لا والله ولا كرامة. ثم اندفع يغني الثاني، فقلن لسيدهن: ويحك! هذا والله أحسن الناس غناءً، فسله أن يعيده علينا ولو مرةً واحددة لعلنا نأخذه عنه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبداً. فقال: قد سمعتن سوء رده عليكن وأنا خائف مثله منه، وقد أسلفنا الإساءة، فاصبرن حتى نداريه. ثم غنى الثالث، فزلزل عليهم الأرض. فوثب الرجل فخرج إليه وقبل رأسه وقال: يا سيدي أخطأنا عليك ولم نعرف موضعك. فقال له: فهبك لم تعرف موضعي، قد كان ينبغي لك أن تتثبت ولا تسرع إلي بسوء العشرة وجفاء القول. فقال له: قد أخطأت وأنا أعتذر إليك مما جرى، وأسألك أن تنزل إلي وتختلط بي. فقال: أما الآن فلا. فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه. فقال له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك؟ فقال: أخذنه من جارية كانت لي ابتاعها رجل من أهل البصرة من مكة، وكانت قد أخذت عن أبي عباد معبدٍ وعني بتخريجها، فكانت تحل مني محل الروح من الجسد، ثم استأثر الله عز وجل بها، وبقي هؤلاء الجواري وهن من تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصب لمعبد وأفضله على المغنين جميعاً وأفضل صنعته على كل صنعة. فقال له معبد: أو إنك لأنت هو! أفتعرفني؟ قال: لا. قال: فصك معبدٌ بيده صلعته ثم قال: فأنا والله معبدٌ، وإليك قدمت من الحجاز، ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، ووالله لا قصرت في جواريك هؤلاء، ولأجعلن لك في كل واحدة منهن خلفاً من الماضية. فأكب الرجل والجواري على يديه ورجليه يقبلونها ويقولون: كتمتنا نفسك طول هذا " اليوم " حتى جفوناك في المخاطبة، وأسأنا عشرتك، وأنت سيدنا ومن نتمنى على الله أن نلقاه. ثم غير الرجل زيه وحاله وخلع عليه عدة خلع، وأعطاه في وقته ثلثمائة دينار وطيباً وهدايا بمثلها، وانحدر معه إلى الأهواز، فأقام عنده حتى رضي حذق جواريه وما أخذته عنه، ثم ودعه وانصرف إلى الحجاز.
غناء معبد للوليد بن يزيد
أخبرني الحسن بن علي الخفاف وعبد الباقي بن قانع قالا: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني مهدي بن سابق قال حدثني سليمان بن غزوان مولى هشام قال حدثني عمر القاري بن عيد قال: قال الوليد بن يزيد يوماً: لقد اشتقت إلى معبد، فوجه البريد إلى المدينة فأتى بمعبد، وأمر الوليد ببركةٍ قد هيئت له فملئت بالخمر والماء، وأتي بمعبد فأمر به فأجلس والبركة بينهما، وبينهما ستر قد أرخي، فقال له غنني يا معبد:
صوت
لهفي على فتية ذل الزمان لهم ... فما أصابهم إلا بما شاءوا
مازال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء
أبكى فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء
- الغناء لمعبد خفيف ثقيلٍ، وفيه ليحيى المكي رملٌ، ولسليمان هزجٌ، كلها رواية الهشامي - قال: فغناه إياه، فرفع الوليد الستر ونزع ملاءةً مطيبة كانت عليه وقذف نفسه في تلك البركة، فنهل فيها نهلةً، ثم أتي بأثوابٍ غيرها وتلقوه بالمجامر والطيب، ثم قال غنني:
صوت
يا ربع مالك لا تجيب متيما ... قد عاج نحوك زائراً ومسلما
جادتك كل سحابةٍ هطالةٍ ... حتى ترى عن زهرةٍ متبسما
- الغناء لمعبدٍ ثاني ثقيلٍ بالوسطى والخنصر عن ابن المكي. وفيه لعلوية ثاني ثقيلٍ آخر بالبنصر في مجراها عنه - قال: فغناه فدعا له بخمسة عشر ألف دينارٍ فصبها بين يديه، ثم قال: انصرف إلى أهلك واكتم ما رأيت.
وأخبرني بهذا الخبر عمي فجاء ببعض معانيه وزاد فيه ونقص، قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني سليمان بن سعد الحلبي قال:
الأغاني - (ج 1 / ص 17)
سمعت القاري بن عدي يقول: إشتاق الوليد بن يزيد إلى معبد، فوجه إليه إلى المدينة فأحضر. وبلغ الوليد قدومه، فأمر ببركةٍ بين يدي مجلسه فملئت ماء وردٍ قد خلط بمسك وزعفران، ثم فرش للوليد في داخل البيت على حافة البركة، وبسط لمعبد مقابله على حافة البركة، ليس معهما ثالثٌ، وجيء بمعبد فرأى ستراً مرخى ومجلس رجل واحد. فقال له الحجاب: يا معبد، سلم على أمير المؤمنين واجلس في هذا الموضع؛ فسلم فرد عليه الوليد السلام من خلف الستر، ثم قال له: حياك الله يا معبد! أتدري لم وجهت إليك؟ قال: الله أعلم وأمير المؤمنين. قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك. قال معبد: أأغني ما حضر أم ما يقترحه أمير المؤمنين؟ قال: بل غنني:
مازال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تافنوا وريب الدهر عداء
فغناه، فما فرغ منه حتى رفع الجواري السجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج منها، فاستقبله الجواري بثيابٍ غير الثياب الأولى، ثم شرب وسقى معبداً، ثم قال له: غنني يا معبد:
يا ربع مالك لا تجيب متيما ... قد عاج نحوك زائراً ومسلما
جادتك كل سحابة هطالة ... حتى ترى عن زهرةٍ متبسما
لو كنت تدري من دعاك أجبته ... وبكيت من حرقٍ عليه إذاً دما
قال: فغناه، وأقبل الجواري فرفعن الستر، وخرج الوليد فالقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج، فلبس ثياباً غير تلك، ثم شرب وسقى معبداً، ثم قال له: غنني. فقال: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال غنني:
عجبت لما رأتني ... أندب الربع المحيلا
واقفاً في الدار أبكي ... لا أرى إلا الطلولا
كيف تبكي لأناسٍ ... لا يملون الذميلا؟
كلما قلت اطمأنت ... دارهم قالوا الرحيلا
قال: فلما غناه رمى نفسه في البركة ثم خرج، فردوا عليه ثيابه، ثم شرب وسقى معبداً، ثم أقبل عليه الوليد فقال له: يا معبد، من أراد أن يزداد عند الملوك حظوةً فليكتم أسرارهم. فقلت: ذلك ما لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائي به. فقال: يا غلام، احمل إلى معبدٍ عشرة آلاف دينار تحصل له في بلده وألفي دينار لنفقة طريقه، فحملت إليه كلها، وحمل على البريد من وقته إلى المدينة.
خبر معبد مع رجل لم يستحسن غناءه
قال إسحاق: وقال معبد: أرسل إلي الوليد بن يزيد فأشخصت إليه. فبينا أنا يوماً في بعض حمامات الشأم إذ دخل علي رجل له هيبة ومعه غلمانٌ له، فأطلى واشتغل به صاحب الحمام عن سائر الناس. فقلت: والله لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي لأكونن بمزجر الكلب؛ فاستدبرته حيث يراني ويسمع مني، ثم ترنمت، فالتفت إلي وقال للغلمان: قدموا إليه " جميع " ما ها هنا، فصار جميع ما كان بين يديه عندي. قال: ثم سألني أن أسير معه إلى منزله فأجبته، فلم يدع من البر والإكرام شيئاً إلا فعله، ثم وضع النبيذ، فجعلت لا آتي بحسنٍ إلا خرجت إلى ما هو أحسن منه وهو لا يرتاح ولا يحفل لما يرى مني. فلما طال عليه أمري قال: يا غلام، شيخنا شيخنا، فأتي بشيخ، فلما رآه هش إليه، فأخذ الشيخ العود ثم اندفع يغني:
سلور في القدر ويلي علوه ... جاء القط أكله ويلي علوه
السلور: السمك الجري بلغة أهل الشأم - قال: فجعل صاحب المنزل يصفق ويضرب برجله طرباً وسروراً. قال: ثم غناه:
وترميني حبيبة بالدراقن ... وتحسبني حبيبة لا أراها
- الدراقن: اسم الخوخ بلغة أهل الشأم - فكاد أن يخرج من جلده طرباً. قال: وانسللت منهم فانصرفت ولم يعلم بي. فما رأيت مثل ذلك اليوم غناءً أضيع، ولا شيخاً أجهل!
معبد وابن عائشة
قال إسحاق: وذكر لي شيخٌ من أهل المدينة عن هارون بن سعد: أن ابن عائشة كان يلقي عليه وعلى ربيحة الشماسية، فدخل معبدٌ فألقى عليهما صوتاً، فاندفع ابن عائشة يغنيه وقد أخذه منه؛ فغضب معبد وقال: أحسنت يابن عاهرة الدار، تفاخرني! فقال: لا والله - جعلني الله فداءك يا أبا عباد - ولكني أقتبس منك، وما أخذته إلا عنك، ثم قال: أنشدك الله يابن شماس، هل قلت لك: قد جاء أبو عباد فاجمع بيني وبينه أقتبس منه. قال: اللهم نعم.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال:
الأغاني - (ج 1 / ص 18)
قيل لابن عائشة، وقد غنى صوتاً أحسن فيه فقال: أصبحت أحسن الناس غناءً، فقيل له: وكيف أصبحت أحسن الناس غناءً؟ قال: وما يمنعني من ذلك وقد أخذت من أبي عباد أحد عشر صوتاً، وأبو عباد مغني أهل المدينة والمقدم فيهم! أخبرنا وكيعٌ قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال حدثني أيوب بن عباية عن رجل من هذيل قال:
قدومه مكة والتقاؤه بالمغنين بها
قال معبد: غنيت فأعجبني غنائي وأعجب الناس وذهب لي به صيت وذكر، فقلت لآتين مكة فلأسمعن من المغنين بها ولأغنينهم ولأتعرفن إليهم، فابتعت حماراً فخرجت عليه إلى مكة. فلما قدمتها بعت حماري وسألت عن المغنين أين يجتمعون؟ فقيل: بقعيقعان في بيت فلان، فجئت إلى منزله بالغلس فقرعت الباب، فقال: من هذا. فقلت: انظر عافاك الله! فدنا وهو يسبح ويستعيد كأنه يخاف، ففتح فقال: من أنت عافاك الله؟ قلت: رجلٌ من أهل المدينة. قال: فما حاجتك؟ قلت: أنا رجلٌ أشتهي الغناء، وأزعم أني أعرف منه شيئاً، وقد بلغني أن القوم يجتمعون عندك، وقد أحببت أن تنزلني في جانب منزلك وتخلطني بهم، فإنه لا مئونة عليك ولا عليهم مني. فلوى شيئاً ثم قال: انزل على بركة الله. قال: فنقلت متاعي فنزلت في جانب حجرته. ثم جاء القوم حين أصبحوا واحداً بعد واحدٍ حتى اجتمعوا، فأنكروني وقالوا: من هذا الرجل؟ قال: رجلٌ من أهل المدينة خفيفٌ يشتهي الغناء ويطرب عليه، ليس عليكم منه عناءٌ ولا مكروه. فرحبوا بي وكلمتهم، ثم انبسطوا وشربوا وغنوا، فجعلت أعجب بغنائهم وأظهر ذلك لهم ويعجبهم مني، حتى أقمنا أياماً، وأخذت من غنائهم وهم لا يدرون أصواتاً وأصوتاً وأصواتاً. ثم قلت لابن سريجٍ: أي فديتك! أمسك علي صوتك:
قل لهندٍ وتربها ... قبل شحط النوى غدا
قال: أو تحسن شيئاً؟ قلت: تنظر، وعسى أن أصنع شيئاً، واندفعت فيه فغنيته، فصاح وصاحوا وقالوا: أحسنت قاتلك الله! قلت: فأمسك علي صوت كذا فأمسكوه علي، فغنيته، فازدادوا عجباً وصياحاً.
فما تركت واحداً منهم إلا غنيته من غنائه أصواتاً قد تخيرتها. قال: فصاحوا حتى علت أصواتهم وهرفوا بي وقالوا: لأنت أحسن بأداءٍ غنائنا عنا منا. قال: قلت: فأمسكوا علي " ولا تضحكوا بي حتى تسمعوا من غنائي " ، فأمسكوا علي؛ فغنيت صوتاً من غنائي فصاحوا بي، ثم غنيتهم آخر وآخر فوثبوا إلي وقالوا: نحلف بالله إن لك لصيتاً واسماً وذكراً، وإن لك فيما هاهنا لسهماً عظيماً، فمن أنت؟ قلت: أنا معبد. فقبلوا رأسي وقالوا: لفقت علينا وكنا نتهاون بك ولا نعدك شيئاً وأنت أنت. فأقمت عندهم شهراً آخذ منهم ويأخذون مني، ثم انصرفت إلى المدينة.
نسبة هذا الصوت صوت
قل لهندٍ وتربها ... قبل شحط النوى غدا
إن تجوي فطالما ... بت ليلي مسهدا
أنت في ود بيننا ... خير ما عندنا يدا
حين تدلي مضفراً ... حالك اللون أسوادا
الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لابن سريج عن حماد ولم يجنسه. وفيه لمالك خفيف ثقيلٍ أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق. وقال الهشامي: فيه لابن محرز خفيف ثقيلٍ بالوسطى.
ومن الثلاثة الأصوات المختارة
صوت فيه أربعة ألحانٍ من رواية علي بن يحيى
ثاني الثلاثة الأصوات المختارة
تشكى الكميت الجري لما جهدته ... وبين لو يسطيع أن يتكلما
لذلك أدني دون خيلي مكانه ... وأوصي به ألا يهان ويكرما
فقلت له: إن ألق للعين قرةً ... فهان علي أن تكل وتسأما
عدمت إذاً وفري وفارقت مهجتي ... لئن لم أقل قرناً إن الله سلما
عروضه من الطويل. قوله: (لئن لم أقل قرنا)، يعني أنه يجد في سيره حتى يقيل بهذا الموضع، وهوقرن المنازل، وكثيراً ما يذكره في شعره.
الشعر لعمر بن أبي ربيعة المخزومي، والغناء في هذا اللحن المختار لابن سريج، ثاني ثقيل مطلقٍ في مجرى الوسطى. وفيه لإسحاق أيضاً ثاني ثقيلٍ بالبنصر عن عمرو بن بانة. وفيه ثقيلٌ أول يقال إنه ليحيى المكي. وفيه خفيف رملٍ يقال إنه لأحمد بن موسى المنجم. وفيه للمعتضد ثاني ثقيلٍ آخر في نهاية الجودة. وقد كان عمرو بن بانة صنع فيه لحناً فسقط لسقوط صنعته.
ثانياً من زمام وجناء عنسٍ ... قانياً لونها يخال خضابا
جدها الفالج الأشم من البخ ... ت وخالاتها انتخبن عرابا
الشعر لعمر بن أبي ربعية. والغناء لابن سريج، وله فيه لحنان: رملٌ بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وخفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو.
صوت
منع الحياة من الرجال ونفعها ... حدقٌ تقلبها النساء مراض
وكأن أفئدة الرجال إذا رأوا ... حدق النساء لنبلها أغراض
الشعر للفرزدق، والغناء لمعبدٍ ثقيلٌ أول عن الهشامي: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن سياطٍ قال حدثني يونس الكاتب قال:
رحلة معبد إلى الأهواز
وما وقع بينه وبين الجواري المغنيات بالسفينة كان معبد قد علم جاريةً من جواري الحجاز الغناء - تدعى " ظبية: - وعني بتخريجها، فاشتراها رجلٌ من أهل العراق فأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فاشتراها رجلٌ من أهل الأهواز، فأعجب بها وذهبت به كل مذهب وغلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان وأخذ جواريه أكثر غنائها عنها، فكان لمحبته إياها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبدٍ وأين مستقره، ويظهر التعصب له والميل إليه والتقديم لغنائه على سائر أغاني أهل عصره إلى أن عرف ذلك منه. وبلغ معبداً خبره، فخرج من مكة حتى أتى البصرة، فلما وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك اليوم إلى الأهواز فاكترى سفينةً. وجاء معبدٌ يلتمس سفينةً ينحدر فيها إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، وليس يعرف أحد منهما صاحبه، فأمر الرجل الملاح أن يجلسه معه في مؤخر السفينة ففعل وانحدروا. فلما صاروا في فم نهر الأبلة تغدوا وشربوا، وأمر جواريه فغنين، ومعبدٌ ساكتٌ وهو في ثياب السفر، وعليه فروٌ وخفان غليظان وزيٌ جافٍ من زي أهل الحجاز، إلى أن غنت إحدى الجواري:
صوت
بانت سعاد وأمسى حبلها انصرما ... واحتلت الغور فالأجزاع من إضما
إحدى بليٍّ وما هام الفؤاد بها ... إلا السفاه وإلا ذكرةً حلما
- قال حماد: والشعر للنابغة الذبياني. والغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالبنصر، وفيه لغيره ألحانٌ قديمة ومحدثة - فلم تجد أداءه، فصاح بها معبد: يا جارية، إن غناءك هذا ليس بمستقيم. قال: فقال له مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو؟ ألا تمسك وتلزم شأنك! فأمسك. ثم غنت أصواتاً من غناء غيره وهو ساكتٌ لا يتكلم، حتى غنت:
صوت
بابنة الأزدي قلبي كئيب ... مستهامٌ عندها ما ينيب
ولقد لاموا فقلت دعوني ... إن من تنهون عنه حبيب
إنما أبلى عظامي وجسمي ... حبها والحب شيء عجيب
أيها العائب عندي هواها ... أنت تفدي من أراك تعيب
- والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر، والغناء لمعبد ثقيلٌ أول بالسبابة في مجرى البنصر - قال: فأخلت ببعضه. فقال لها معبدٌ: يا جارية، لقد أخللت بهذا الصوت إخلالاً شديداً. فغضب الرجل وقال له: ويلك! ما أنت والغناء! ألا تكف عن هذا الفضول! فأمسك. وغنى الجواري ملياً، ثم غنت إحداهن:
صوت
خليلي عوجا فابكيا ساعةً معي ... على الربع نقضي حاجةً ونودع
ولا تعجلاني أن ألم بدمنةٍ ... لعزة لاحت لي ببيداء بلقع
وقولا لقلبٍ قد سلا: راجع الهوى ... وللعين: أذري من دموعك أودعي
فلا عيش إلا مثل عيشٍ مضى لنا ... مصيفاً أقمنا فيه من بعد مربع
الأغاني - (ج 1 / ص 16)
- الشعر لكثير، والغناء لمعبد خفيف ثقيلٍ بالسبابة في مجرى الوسطى، وفيه رملٌ للغريض - قال: فلم تصنع فيه شيئاً. فقال لها معبد: يا هذه، أما تقوين على أداء صوت واحد؟ فغضب الرجل وقال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجهٍ ولا حيلةٍ! وأقسم بالله لئن عاودت لأخرجنك من السفينة، فأمسك معبدٌ، حتى إذا سكتت الجواري سكتةً اندفع يغني الصوت الأول حتى فرغ منه، فصاح الجواري: أحسنت والله يا رجل! فأعده. فقال: لا والله ولا كرامة. ثم اندفع يغني الثاني، فقلن لسيدهن: ويحك! هذا والله أحسن الناس غناءً، فسله أن يعيده علينا ولو مرةً واحددة لعلنا نأخذه عنه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبداً. فقال: قد سمعتن سوء رده عليكن وأنا خائف مثله منه، وقد أسلفنا الإساءة، فاصبرن حتى نداريه. ثم غنى الثالث، فزلزل عليهم الأرض. فوثب الرجل فخرج إليه وقبل رأسه وقال: يا سيدي أخطأنا عليك ولم نعرف موضعك. فقال له: فهبك لم تعرف موضعي، قد كان ينبغي لك أن تتثبت ولا تسرع إلي بسوء العشرة وجفاء القول. فقال له: قد أخطأت وأنا أعتذر إليك مما جرى، وأسألك أن تنزل إلي وتختلط بي. فقال: أما الآن فلا. فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه. فقال له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك؟ فقال: أخذنه من جارية كانت لي ابتاعها رجل من أهل البصرة من مكة، وكانت قد أخذت عن أبي عباد معبدٍ وعني بتخريجها، فكانت تحل مني محل الروح من الجسد، ثم استأثر الله عز وجل بها، وبقي هؤلاء الجواري وهن من تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصب لمعبد وأفضله على المغنين جميعاً وأفضل صنعته على كل صنعة. فقال له معبد: أو إنك لأنت هو! أفتعرفني؟ قال: لا. قال: فصك معبدٌ بيده صلعته ثم قال: فأنا والله معبدٌ، وإليك قدمت من الحجاز، ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، ووالله لا قصرت في جواريك هؤلاء، ولأجعلن لك في كل واحدة منهن خلفاً من الماضية. فأكب الرجل والجواري على يديه ورجليه يقبلونها ويقولون: كتمتنا نفسك طول هذا " اليوم " حتى جفوناك في المخاطبة، وأسأنا عشرتك، وأنت سيدنا ومن نتمنى على الله أن نلقاه. ثم غير الرجل زيه وحاله وخلع عليه عدة خلع، وأعطاه في وقته ثلثمائة دينار وطيباً وهدايا بمثلها، وانحدر معه إلى الأهواز، فأقام عنده حتى رضي حذق جواريه وما أخذته عنه، ثم ودعه وانصرف إلى الحجاز.
غناء معبد للوليد بن يزيد
أخبرني الحسن بن علي الخفاف وعبد الباقي بن قانع قالا: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني مهدي بن سابق قال حدثني سليمان بن غزوان مولى هشام قال حدثني عمر القاري بن عيد قال: قال الوليد بن يزيد يوماً: لقد اشتقت إلى معبد، فوجه البريد إلى المدينة فأتى بمعبد، وأمر الوليد ببركةٍ قد هيئت له فملئت بالخمر والماء، وأتي بمعبد فأمر به فأجلس والبركة بينهما، وبينهما ستر قد أرخي، فقال له غنني يا معبد:
صوت
لهفي على فتية ذل الزمان لهم ... فما أصابهم إلا بما شاءوا
مازال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء
أبكى فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء
- الغناء لمعبد خفيف ثقيلٍ، وفيه ليحيى المكي رملٌ، ولسليمان هزجٌ، كلها رواية الهشامي - قال: فغناه إياه، فرفع الوليد الستر ونزع ملاءةً مطيبة كانت عليه وقذف نفسه في تلك البركة، فنهل فيها نهلةً، ثم أتي بأثوابٍ غيرها وتلقوه بالمجامر والطيب، ثم قال غنني:
صوت
يا ربع مالك لا تجيب متيما ... قد عاج نحوك زائراً ومسلما
جادتك كل سحابةٍ هطالةٍ ... حتى ترى عن زهرةٍ متبسما
- الغناء لمعبدٍ ثاني ثقيلٍ بالوسطى والخنصر عن ابن المكي. وفيه لعلوية ثاني ثقيلٍ آخر بالبنصر في مجراها عنه - قال: فغناه فدعا له بخمسة عشر ألف دينارٍ فصبها بين يديه، ثم قال: انصرف إلى أهلك واكتم ما رأيت.
وأخبرني بهذا الخبر عمي فجاء ببعض معانيه وزاد فيه ونقص، قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني سليمان بن سعد الحلبي قال:
الأغاني - (ج 1 / ص 17)
سمعت القاري بن عدي يقول: إشتاق الوليد بن يزيد إلى معبد، فوجه إليه إلى المدينة فأحضر. وبلغ الوليد قدومه، فأمر ببركةٍ بين يدي مجلسه فملئت ماء وردٍ قد خلط بمسك وزعفران، ثم فرش للوليد في داخل البيت على حافة البركة، وبسط لمعبد مقابله على حافة البركة، ليس معهما ثالثٌ، وجيء بمعبد فرأى ستراً مرخى ومجلس رجل واحد. فقال له الحجاب: يا معبد، سلم على أمير المؤمنين واجلس في هذا الموضع؛ فسلم فرد عليه الوليد السلام من خلف الستر، ثم قال له: حياك الله يا معبد! أتدري لم وجهت إليك؟ قال: الله أعلم وأمير المؤمنين. قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك. قال معبد: أأغني ما حضر أم ما يقترحه أمير المؤمنين؟ قال: بل غنني:
مازال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تافنوا وريب الدهر عداء
فغناه، فما فرغ منه حتى رفع الجواري السجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج منها، فاستقبله الجواري بثيابٍ غير الثياب الأولى، ثم شرب وسقى معبداً، ثم قال له: غنني يا معبد:
يا ربع مالك لا تجيب متيما ... قد عاج نحوك زائراً ومسلما
جادتك كل سحابة هطالة ... حتى ترى عن زهرةٍ متبسما
لو كنت تدري من دعاك أجبته ... وبكيت من حرقٍ عليه إذاً دما
قال: فغناه، وأقبل الجواري فرفعن الستر، وخرج الوليد فالقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج، فلبس ثياباً غير تلك، ثم شرب وسقى معبداً، ثم قال له: غنني. فقال: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال غنني:
عجبت لما رأتني ... أندب الربع المحيلا
واقفاً في الدار أبكي ... لا أرى إلا الطلولا
كيف تبكي لأناسٍ ... لا يملون الذميلا؟
كلما قلت اطمأنت ... دارهم قالوا الرحيلا
قال: فلما غناه رمى نفسه في البركة ثم خرج، فردوا عليه ثيابه، ثم شرب وسقى معبداً، ثم أقبل عليه الوليد فقال له: يا معبد، من أراد أن يزداد عند الملوك حظوةً فليكتم أسرارهم. فقلت: ذلك ما لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائي به. فقال: يا غلام، احمل إلى معبدٍ عشرة آلاف دينار تحصل له في بلده وألفي دينار لنفقة طريقه، فحملت إليه كلها، وحمل على البريد من وقته إلى المدينة.
خبر معبد مع رجل لم يستحسن غناءه
قال إسحاق: وقال معبد: أرسل إلي الوليد بن يزيد فأشخصت إليه. فبينا أنا يوماً في بعض حمامات الشأم إذ دخل علي رجل له هيبة ومعه غلمانٌ له، فأطلى واشتغل به صاحب الحمام عن سائر الناس. فقلت: والله لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي لأكونن بمزجر الكلب؛ فاستدبرته حيث يراني ويسمع مني، ثم ترنمت، فالتفت إلي وقال للغلمان: قدموا إليه " جميع " ما ها هنا، فصار جميع ما كان بين يديه عندي. قال: ثم سألني أن أسير معه إلى منزله فأجبته، فلم يدع من البر والإكرام شيئاً إلا فعله، ثم وضع النبيذ، فجعلت لا آتي بحسنٍ إلا خرجت إلى ما هو أحسن منه وهو لا يرتاح ولا يحفل لما يرى مني. فلما طال عليه أمري قال: يا غلام، شيخنا شيخنا، فأتي بشيخ، فلما رآه هش إليه، فأخذ الشيخ العود ثم اندفع يغني:
سلور في القدر ويلي علوه ... جاء القط أكله ويلي علوه
السلور: السمك الجري بلغة أهل الشأم - قال: فجعل صاحب المنزل يصفق ويضرب برجله طرباً وسروراً. قال: ثم غناه:
وترميني حبيبة بالدراقن ... وتحسبني حبيبة لا أراها
- الدراقن: اسم الخوخ بلغة أهل الشأم - فكاد أن يخرج من جلده طرباً. قال: وانسللت منهم فانصرفت ولم يعلم بي. فما رأيت مثل ذلك اليوم غناءً أضيع، ولا شيخاً أجهل!
معبد وابن عائشة
قال إسحاق: وذكر لي شيخٌ من أهل المدينة عن هارون بن سعد: أن ابن عائشة كان يلقي عليه وعلى ربيحة الشماسية، فدخل معبدٌ فألقى عليهما صوتاً، فاندفع ابن عائشة يغنيه وقد أخذه منه؛ فغضب معبد وقال: أحسنت يابن عاهرة الدار، تفاخرني! فقال: لا والله - جعلني الله فداءك يا أبا عباد - ولكني أقتبس منك، وما أخذته إلا عنك، ثم قال: أنشدك الله يابن شماس، هل قلت لك: قد جاء أبو عباد فاجمع بيني وبينه أقتبس منه. قال: اللهم نعم.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال:
الأغاني - (ج 1 / ص 18)
قيل لابن عائشة، وقد غنى صوتاً أحسن فيه فقال: أصبحت أحسن الناس غناءً، فقيل له: وكيف أصبحت أحسن الناس غناءً؟ قال: وما يمنعني من ذلك وقد أخذت من أبي عباد أحد عشر صوتاً، وأبو عباد مغني أهل المدينة والمقدم فيهم! أخبرنا وكيعٌ قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال حدثني أيوب بن عباية عن رجل من هذيل قال:
قدومه مكة والتقاؤه بالمغنين بها
قال معبد: غنيت فأعجبني غنائي وأعجب الناس وذهب لي به صيت وذكر، فقلت لآتين مكة فلأسمعن من المغنين بها ولأغنينهم ولأتعرفن إليهم، فابتعت حماراً فخرجت عليه إلى مكة. فلما قدمتها بعت حماري وسألت عن المغنين أين يجتمعون؟ فقيل: بقعيقعان في بيت فلان، فجئت إلى منزله بالغلس فقرعت الباب، فقال: من هذا. فقلت: انظر عافاك الله! فدنا وهو يسبح ويستعيد كأنه يخاف، ففتح فقال: من أنت عافاك الله؟ قلت: رجلٌ من أهل المدينة. قال: فما حاجتك؟ قلت: أنا رجلٌ أشتهي الغناء، وأزعم أني أعرف منه شيئاً، وقد بلغني أن القوم يجتمعون عندك، وقد أحببت أن تنزلني في جانب منزلك وتخلطني بهم، فإنه لا مئونة عليك ولا عليهم مني. فلوى شيئاً ثم قال: انزل على بركة الله. قال: فنقلت متاعي فنزلت في جانب حجرته. ثم جاء القوم حين أصبحوا واحداً بعد واحدٍ حتى اجتمعوا، فأنكروني وقالوا: من هذا الرجل؟ قال: رجلٌ من أهل المدينة خفيفٌ يشتهي الغناء ويطرب عليه، ليس عليكم منه عناءٌ ولا مكروه. فرحبوا بي وكلمتهم، ثم انبسطوا وشربوا وغنوا، فجعلت أعجب بغنائهم وأظهر ذلك لهم ويعجبهم مني، حتى أقمنا أياماً، وأخذت من غنائهم وهم لا يدرون أصواتاً وأصوتاً وأصواتاً. ثم قلت لابن سريجٍ: أي فديتك! أمسك علي صوتك:
قل لهندٍ وتربها ... قبل شحط النوى غدا
قال: أو تحسن شيئاً؟ قلت: تنظر، وعسى أن أصنع شيئاً، واندفعت فيه فغنيته، فصاح وصاحوا وقالوا: أحسنت قاتلك الله! قلت: فأمسك علي صوت كذا فأمسكوه علي، فغنيته، فازدادوا عجباً وصياحاً.
فما تركت واحداً منهم إلا غنيته من غنائه أصواتاً قد تخيرتها. قال: فصاحوا حتى علت أصواتهم وهرفوا بي وقالوا: لأنت أحسن بأداءٍ غنائنا عنا منا. قال: قلت: فأمسكوا علي " ولا تضحكوا بي حتى تسمعوا من غنائي " ، فأمسكوا علي؛ فغنيت صوتاً من غنائي فصاحوا بي، ثم غنيتهم آخر وآخر فوثبوا إلي وقالوا: نحلف بالله إن لك لصيتاً واسماً وذكراً، وإن لك فيما هاهنا لسهماً عظيماً، فمن أنت؟ قلت: أنا معبد. فقبلوا رأسي وقالوا: لفقت علينا وكنا نتهاون بك ولا نعدك شيئاً وأنت أنت. فأقمت عندهم شهراً آخذ منهم ويأخذون مني، ثم انصرفت إلى المدينة.
نسبة هذا الصوت صوت
قل لهندٍ وتربها ... قبل شحط النوى غدا
إن تجوي فطالما ... بت ليلي مسهدا
أنت في ود بيننا ... خير ما عندنا يدا
حين تدلي مضفراً ... حالك اللون أسوادا
الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لابن سريج عن حماد ولم يجنسه. وفيه لمالك خفيف ثقيلٍ أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق. وقال الهشامي: فيه لابن محرز خفيف ثقيلٍ بالوسطى.
ومن الثلاثة الأصوات المختارة
صوت فيه أربعة ألحانٍ من رواية علي بن يحيى
ثاني الثلاثة الأصوات المختارة
تشكى الكميت الجري لما جهدته ... وبين لو يسطيع أن يتكلما
لذلك أدني دون خيلي مكانه ... وأوصي به ألا يهان ويكرما
فقلت له: إن ألق للعين قرةً ... فهان علي أن تكل وتسأما
عدمت إذاً وفري وفارقت مهجتي ... لئن لم أقل قرناً إن الله سلما
عروضه من الطويل. قوله: (لئن لم أقل قرنا)، يعني أنه يجد في سيره حتى يقيل بهذا الموضع، وهوقرن المنازل، وكثيراً ما يذكره في شعره.
الشعر لعمر بن أبي ربيعة المخزومي، والغناء في هذا اللحن المختار لابن سريج، ثاني ثقيل مطلقٍ في مجرى الوسطى. وفيه لإسحاق أيضاً ثاني ثقيلٍ بالبنصر عن عمرو بن بانة. وفيه ثقيلٌ أول يقال إنه ليحيى المكي. وفيه خفيف رملٍ يقال إنه لأحمد بن موسى المنجم. وفيه للمعتضد ثاني ثقيلٍ آخر في نهاية الجودة. وقد كان عمرو بن بانة صنع فيه لحناً فسقط لسقوط صنعته.