إن الأمة الإسلامية يجب عليها أن تتبع سيرة نبيها محمد عليه الصلاة والسلام والصحابة الأخيار؛ لأنهم خير قدوة وخير مثال لهذه الأمة في دينها وقيمها وأخلاقها، ولذا فإن في هذه المادة سيرة صحابي جليل، ألا وهو أبو أيوب الأنصاري شهيد القسطنطينية، وقد اشتملت سيرته على بعض المواقف الدالة على محبته للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان علو همته في الجهاد في سبيل الله مع كبر سنه رضي الله عنه.
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقبال الأنصار له
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المصلون: أيها الساجدون! أيها المؤمنون! عنوان هذه الخطبة (شهيد القسطنطينية ) من هو هذا الشهيد؟ إنه رجل مؤمن ولد في الجزيرة ، قتل في الثمانين وقد اشتعل رأسه شيباً، قتل في سبيل الله تحت أسوار القسطنطينية والمسلم ليس له أرض واحدة، البلاد كلها بلاده لأنها بلاد الله، كما يقول الأول:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أن الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمة على ثراها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى روحي وا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمَّان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
فمن هو هذا الرجل الشهيد؟ إنه الذي استقبل الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة من الإرهاب فر من السيوف التي تقطر حقداً ودماً، باع أهل مكة أملاكه وحاصروه وآذوه وشتموه ووضعوا الشوك في طريقه وسلى الجزور على ظهره، وضاقت به الدنيا بما رحبت، فخرج يحمل مبادئه معه أبو بكر الصديق .......
خروج الأنصار مع الظهيرة ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم
استمر عليه الصلاة والسلام سائراً إلى المدينة ، إلى الأنصار إلى أحباب الله إلى كتيبة الإسلام، أخذ عليه الصلاة والسلام عشرة أيام في السفر يقتلع أقدامه من حرارة الصحراء، وقد امتلأ جوعاً، وتعباً، وظمأ، وسهاداً، ومشقة، لكن كلها في سبيل الله، كان الأنصار يخرجون مع الظهيرة جميعاً عن بكرة أبيهم ليستقبلوا أعظم فاتح عرفه التاريخ، وأعظم رجل مشى على الأرض، أما الرجال فيخرجون السيوف والرماح ليحيون الرسول المنتظر، وأما النساء فكن يصعدن على أسطحة المنازل علهن أن يظفرن بنظرة ولو واحدة إلى وجه العظيم، وأما الأطفال فكانوا ينتشرون كالدرر والجواهر على الأرصفة ينشدون ويرددون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
وفي ظهيرة من الأيام الخالدة التي لا تنسى أبداً وإذا بالصائح على أسطحة المدينة قدم الرسول عليه الصلاة والسلام، فخر الأنصار بسيوفهم كأنهم خرجوا من المقابر، بعثوا من جديد وسال الحب في دمائهم من جديد، وعادت لهم الحياة من جديد، يقول أحد الناس في الرسول عليه الصلاة والسلام:
سافرت نفسه الكريمة فيضاً فالليالي محسودة بالليالي
وعلى يثرب أهازيج نصر طلع البدر نظمة الأطفال
واستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلال
وصل عليه الصلاة والسلام على ناقته يقول أنس : [[والله الذي لا إله إلا هو ما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت الأنصار يبكون من الفرح لما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام ]].
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
النبي صلى الله عليه وسلم يحيي قبائل الأنصار
ووقف الرسول عليه الصلاة والسلام يحيي القبائل قبيلة قبيلة، يأخذون زمام ناقته ليكون ضيفهم فيقول: { دعوها فإنها مأمورة فإذا هبطت الناقة في مكان فأنا معها، فيمر ببني بياضة فيخرجون بالسيوف والموت يقطر من عيونهم نصرة لله ولرسوله، فيقولون: أنت ضيفنا قال: دعوها فإنها مأمورة، ويشير لهم ويتبسم لهم، ويشكرهم، ويمر ببني عمرو بن عوف وقد اصطفوا على جنبات الطرق يحيونه قالوا: أنت ضيفنا قال: دعوها فإنها مأمورة، وتخترق الصفوف وتمر إلى أن تأتي بني النجار فيخرج أطفال بني النجار يقولون:
نحن بني النجار يا مرحباً بالجار
أو كما قالوا في نشيدهم، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، ويُرفع له الأطفال على ناقته فيقبلهم ويتركهم صلى الله عليه وسلم -لكنه أسر قلوبهم فلا تعود لهم أبداً- ثم أناخت الناقة في مكان مسجده الآن، ولما أناخت انتظر قليلاً ولم ينـزل من على ظهرها، فقامت ثم مضت قليلاً ثم رجعت إلى مكانها فناخت وبركت ونزل عليه الصلاة والسلام }.
شهيد القسطنطينية مع النبي صلى الله عليه وسلم
ولما نزل سارع هذا الشيخ الذي قتل في أرض الروم إلى متاع الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى ملابسه وما عنده من شيء على الناقة فأخذه، فقال بنو النجار: عندنا يا رسول الله أنت ضيفنا قال: لا. الرجل مع رحله فذهب وراء الشيخ الذي هو أبو أيوب الأنصاري ووصل معه إلى البيت فقال: يا رسول الله! عندي هذا البيت سفلى وعليه، اسكن في الأعلى وأنا هنا في الأسفل قال صلى الله عليه وسلم: أريد أن أكون قريباً من الناس وقريباً من المسجد فأريد هذا، يريد الأرضي فأسكنه وصعد أبو أيوب الأنصاري وزوجته الطاهرة النقية الشريفة إلى الدور الأعلى، وأتى وقت النوم فأخذ يتقلب أبو أيوب الأنصاري كأنه يتقلب على الرمضاء لا ينام قالت له زوجته: مالك يا أبا أيوب لا تنام؟ قال: والله ما أتاني النوم كيف أنام في العلو والرسول عليه الصلاة والسلام تحتنا، وفي الصباح حاول أبو أيوب أن يقنع الرسول عليه الصلاة والسلام فأبى، كان الطعام يقدم لـأبي أيوب فيرفع يده وترفع زوجته يدها ويقولان: والله لا نأكل حتى يأكل الرسول عليه الصلاة والسلام فينـزل بالصحفة ويقدم الثريد، ويشوي اللحم، ويضيف النبي صلى الله عليه وسلم أحسن ضيافة عرفها التاريخ.
وفي ليلة من الليالي يقوم أبو أيوب ليصلي فيقع في جرة الماء فتنكسر فينصب الماء في الأرض وينسكب في الأرض، فيأخذ شملته وينشف بها الأرض لئلا يتصبب الماء على المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم يقول: يا رسول الله! أسألك بالله أن تصعد في العلو وأنا في السفلى فصعد عليه الصلاة والسلام، قدم له من الإكرام ما لم يقدمه عربي لعربي، ولا مسلم لإمام عظيم ولا مضيف لضيف، إذا أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرج قدم أبو أيوب حذاءه وألبسه في رجليه، يقف ليستقبله ويقف ليودعه، حول نفسه إلى طباخ في البيت يقدم جهده وعرقه وكل ما يملك ليفي بالضيافة، وحفظها له عليه الصلاة والسلام ولم يضيعها أبداً فكان يدعو له، ويتفقده، وكان يرى أنه الشيخ المبارك الذي أصبح فيه كل شيء أبيض، دينه ولحيته ورأسه ومبادؤه.......
يجوع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه فيأتون إلى أبي أيوب الأنصاري
وتستمر الأيام وفي بعض الروايات أنه المقصود بالقصة الآتية: يجوع عليه الصلاة والسلام لما انتقل إلى بيته ويحاصره الجوع فلا يجد في بيته عليه الصلاة والسلام لقمة ولا تمرة ولا قطعة تُؤكل، فيخرج عليه الصلاة والسلام إلى الطريق وإذا بـأبي بكر وعمر واقفان أمامه عليه الصلاة والسلام قال: ماذا أخرجكما الآن؟ قالا: والله يا رسول الله ما أخرجنا إلا الجوع قال: وأنا أخرجني الجوع -الذي حرر الجزيرة العربية وما جاورها وفتح الدنيا يجوع فلا يجد تمرة، ولا لقمة، ولا خبزة في بيته، الذي سلم مفاتيح الدنيا لأتباعه لا يجد كسرة في بيته!! قال: هيا بنا، وذهبوا جميعاً ودخلوا على أبي أيوب في مزرعته وكان غائباً وامرأته حاضرة، قال عليه الصلاة والسلام وهو يعرفها: أين أبو أيوب ؟ قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، فأتى أبو أيوب وإذا الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحباه على البساط.
هل هناك ضيوف في الدنيا أعظم من الثلاثة؟ هل سمعتم أن ثلاثة اجتمعوا منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أشرف من الثلاثة؟ لا. ماذا فعل أبو أيوب ؟ ألقى الماء والقربة وأخذ يبكي من الفرح وقال: مرحباً والله ما أحد أسعد مني ضيوفاً هذا اليوم، ثم ذهب يأخذ عذقاً من النخل ويذبح شاة ويشوي ويطبخ ويقدم فهو مضياف الإسلام، حظه في الضيافة أن يشبع خير بطن خلقها الله، وأن يروي خير كبد خلقها الله؛ كبد وبطن محمد عليه الصلاة والسلام.
خروج أبي أيوب لقتال الروم
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يموت كما يموت البشر، ومبادئ أبي أيوب لم تمت أبداً، بقي شاباً وهو في الثمانين، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن أصحابه سوف يركبون البحر غزاة في سبيل الله {دخل صلى الله عليه وسلم عند عجوز هي أم حرام بنت ملحان فنام عندها في الظهيرة ثم استفاق صلى الله عليه وسلم وهو يضحك قالت: ما لك يا رسول الله! أضحك الله سنك؟ قال: أناس من أمتي عرضوا علي يركبون البحر غزاة في سبيل الله كالملوك على الأَسِّرَةِ قالت: ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنتِ منهم } وتستمر الأيام وينادي المسلمون كتائب الإسلام أن تجاهد في سبيل الله لتفتح القسطنطينية لتغزو بلاد الروم ولتوسع دائرة الإسلام، ولما سمع أبو أيوب الجهاد والإعلان لبس سيفه، ورمحه، وركب بغلته. قال أبناؤه: أنت شيخ كبير في الثمانين.
حملت الثمانين الطوال مجاهداً كأنك في العشرين تقرا وتكتب
قال: لا. قالوا: عذرك الله أنت شيخ كبير، ومريض، ولا تستطيع القتال قال: لا والله. إن الله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41] وأنا ثقيل والله لأنفرن، وذهب إلى الجهاد وانظر إلى هذا العمر المبارك، أين كثير من أهل الثمانين الآن الذين حولوا آخر المطاف إلى شهادة الزور أو الاستيلاء على أراضي الفقراء؟
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
إذا مالم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما بال أشيب يستهويه شيطان
شيوخ كبار وما تابوا، والله عز وجل يوم القيامة لا ينظر إلى ثلاثة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم منهم {أشيمط زان } شيخ كبير ويزني، وتفاجأ بشيخ كبير ويسرق، وشيخ كبير ويحلف أيمان الغموس، وشيخ كبير يقطع الأرحام، وشيخ كبير يؤذي الجيران، وشيخ كبير يمشي بالنميمة بين الناس.
استشهاد أبي أيوب ودفنه تحت أسوار القسطنطينية
أما أبو أيوب فجعل الثمانين طاعة لله وركب مع الجيش وصعد على السفينة، وعبرت به البحر وهو ينشد نشيد الخلود: لا إله إلا الله محمد رسول لله، وتبدأ المعركة فيغتسل ويلبس أكفانه ويتطيب ويتحنط ويقول للمسلمين: أسألكم بالله إذا قتلت اليوم فالتمسوا آخر أرض من أراضي المسلمين تجاه الروم فادفنوني تحت أسوار القسطنطينية علَّ الله أن يبعثني يوم القيامة مؤمناً بين كافرين، يبعث يوم القيامة وحيداً مؤمناً بين كافرين، إذا قامت القيامة بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:9-10] خرج أبو أيوب من قبره ينفض التراب عن رأسه وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وبدأت المعركة فقاتل قتالاً مستميتاً وهو في الثمانين حتى قطع رأسه.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
قتل ودفن هناك، ومن وصل منكم هناك فليسلم عليه، وليبلغه سلام الأمة الإسلامية، وليقف على قبره طويلاً وليشكره على حسن الضيافة والاستقبال، وعلى حسن الحياة، وعلى حسن العطاء والفداء والتضحية، سلام عليك يا أبا أيوب الأنصاري من جزيرة العرب وجزاك الله خير ما جزى ولياً عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأحسن الله إليك أحسن ما أحسن مضيف إلى ضيفه، وجمعنا الله بك في دار الكرامة.
ذلكم هو شهيد القسطنطينية وهو من أجدادنا ومن أراد أن يمشي على منواله فما ذاك بعزيز، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الإسراف في الأعراس وصوره
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس! إنما وضع المنبر في كل جمعة لنتدارس أخطاءنا، ولنعود إلى حساباتنا، ولنرى مشاكلنا أمام العين، نحلها بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد أخطأنا جميعاً خطأً اجتماعياً مرت عليه سنوات، وقليل من ينبه عليه، وقليل من يستنكره، وقليل من يلاحظه، حتى كان سائداً بين الناس، وكأنه من الكتاب والسنة، وقد أضر هذا الخطأ الجم بكثير من الناس ألا وهو الإسراف في الزواج، ومن صور هذا الإسراف الذي لا يرضاه الإسلام الإسراف في صالات الأفراح، وفي الولائم التي يقوم بها الناس في وقت الزواج، وقد علمت من شباب كثير كيف أثقلهم هذا الفعل وكيف جعلهم يستدينون أموال الناس، عندهم قلة ذات يد وحاجة ملحة ولكن يرفض العرف الجاهلي إلا البَطَر والرياء والسمعة والإسراف.
تصوروا إلى شاب مقدم على حياة جديدة وبيت جديد، راتبه زهيد ودخله حقير، يريد زوجة يسكن إليها ويربي بيتاً إسلامياً، فأول ما يواجهه من العقبات صالة الأفراح، عشرون ذبيحة إلى ثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسين من أين يدفعها؟ يذهب إلى الناس يستجدي من أجل العرف الجاهلي الذي ما أنزل الله به من سلطان، فأين العقلاء وأهل الرأي، وأهل العلم، وأين القضاة والدعاة، وأين العلماء الذين يقفون أمام هذا الخطأ الفادح؟......
مضار الإسراف
إن هذا يجر أموراً خطيرة في الأمة منها: الإسراف الذي نهى الله عنه، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء:26-27] ثلاثون ذبيحة ترمى والفقراء في البادية وفي تهامة لا يجدون كسرة الخبز، ثلاثون ذبيحة ترمى والشعوب الإسلامية بعضها يأكل أوراق الشجر، ثلاثون ذبيحة ترمى للقطط والكلاب وكثير من المساجد لم تعمر من عشر سنوات، أليس هذا هو البطر بعينه قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ [الأنفال:47].
في العطلة الماضية في أبها وقع أكثر من اثنين وستين زواجاً كلها مغالاة، ومفاخرة، ومرءاة في صالة الأفراح، وعلمت من كثير ممن تزوج أنهم اقترضوا ديناً لتلك الوليمة، فهل يرضى الإسلام بهذا؟ وهل يقره المسلمون؟ إن العالم الكافر الآن أصبح يتعامل بالعقل في أموره الاجتماعية والاقتصادية، ويقننوا مساراته، ويعرف دخله وما يخرج ويعرف أموره النافعة من الضارة، ونحن أمة بالكتاب والسنة، فينا العلماء وأهل الرأي والأخيار والأبرار ونسكت بالإجماع عن هذا الخطأ.
ثم إن ذلك يورث -أيضاً- إحجام كثير من الشباب عن الزواج، إذا كانت هذه التكلفات من الشرعة، والوليمة، وإيجار الصالة، وكثرة الذبائح والحلي والمهر، فمن يجمع هذه لهذا الشاب حينها تقع العنوسة ويتوقف الشباب والشابات عن الزواج، وتقع أمور لا تحمد عقباها ولا يرضاها الله.
الحلول المقترحة تجاه الإسراف
إن الحل الأكبر هو فعل محمد عليه الصلاة والسلام، أن نفعل كما فعل -بأبي هو أمي- فهو أغلى الناس وأبرهم وأحلمهم أن نقتصد، ولا تساير الناس في أفكارهم ولا آرائهم بل عليك بما يرضي الله عز وجل، ففي الحديث {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضى الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس } وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فتزوج تسعاً من النسوة أو أكثر بعضهن لم يجد ذبيحة واحدة، وإنما قدم عيب عليكباً وشيئاً من شعير، وشيئاً من سويق فأكله الصحابة وتمضمضوا وقاموا يصلون، وزواج آخر وجد ذبيحة واحدةً جمع عليها أكثر من ثمانين من الصحابة، وكذلك أصحابه، لماذا ما تعمل هذه الحفلات في البيوت؟ لماذا لا نكتفي بالقرابة وبالزواج العائلي فقط؟ لماذا نأخذ أموال الناس ديناً في ظهورنا؛ لنباهي الناس ونرائيهم ونفاخرهم؟ أما تكفي الذبيحة والذبيحتان فحسب؟ أليس هذا هو العقل؟ أليس هذا هو الدين؟ وأليس هذا هو الترشيد؟ ومن عنده فائض من المال فمشاريع الخير وأبواب الجنة ثمانية يدخل بماله من أيها شاء من أي باب شاء، أما هذه الأموال التي يصرفها للرياء والسمعة فلا يكفي أن ينجو كفافاً لا له ولا عليه، بل يحاسب بها عند الله يوم القيامة فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36].
أيها المسلمون: لابد على أهل العقل من الناس أن يضعوا حداً معيناً، ويبدأ فيهم الرشيد منهم، فإنه من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من المتالف ومن الأخطاء والمخالفات الشرعية.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا } اللهم صل على نبيك وحبيبك واعرض عليه صلاتنا، وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد بين صفوفهم وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أصلح ولاة الأمور، اللهم وفقهم إلى الحق وإلى العمل بكتابك وبسنتك نبيك يارب العالمين، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ عائض القرنى
موقع الشبكة الإسلام
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقبال الأنصار له
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المصلون: أيها الساجدون! أيها المؤمنون! عنوان هذه الخطبة (شهيد القسطنطينية ) من هو هذا الشهيد؟ إنه رجل مؤمن ولد في الجزيرة ، قتل في الثمانين وقد اشتعل رأسه شيباً، قتل في سبيل الله تحت أسوار القسطنطينية والمسلم ليس له أرض واحدة، البلاد كلها بلاده لأنها بلاد الله، كما يقول الأول:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أن الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمة على ثراها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى روحي وا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمَّان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
فمن هو هذا الرجل الشهيد؟ إنه الذي استقبل الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة من الإرهاب فر من السيوف التي تقطر حقداً ودماً، باع أهل مكة أملاكه وحاصروه وآذوه وشتموه ووضعوا الشوك في طريقه وسلى الجزور على ظهره، وضاقت به الدنيا بما رحبت، فخرج يحمل مبادئه معه أبو بكر الصديق .......
خروج الأنصار مع الظهيرة ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم
استمر عليه الصلاة والسلام سائراً إلى المدينة ، إلى الأنصار إلى أحباب الله إلى كتيبة الإسلام، أخذ عليه الصلاة والسلام عشرة أيام في السفر يقتلع أقدامه من حرارة الصحراء، وقد امتلأ جوعاً، وتعباً، وظمأ، وسهاداً، ومشقة، لكن كلها في سبيل الله، كان الأنصار يخرجون مع الظهيرة جميعاً عن بكرة أبيهم ليستقبلوا أعظم فاتح عرفه التاريخ، وأعظم رجل مشى على الأرض، أما الرجال فيخرجون السيوف والرماح ليحيون الرسول المنتظر، وأما النساء فكن يصعدن على أسطحة المنازل علهن أن يظفرن بنظرة ولو واحدة إلى وجه العظيم، وأما الأطفال فكانوا ينتشرون كالدرر والجواهر على الأرصفة ينشدون ويرددون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
وفي ظهيرة من الأيام الخالدة التي لا تنسى أبداً وإذا بالصائح على أسطحة المدينة قدم الرسول عليه الصلاة والسلام، فخر الأنصار بسيوفهم كأنهم خرجوا من المقابر، بعثوا من جديد وسال الحب في دمائهم من جديد، وعادت لهم الحياة من جديد، يقول أحد الناس في الرسول عليه الصلاة والسلام:
سافرت نفسه الكريمة فيضاً فالليالي محسودة بالليالي
وعلى يثرب أهازيج نصر طلع البدر نظمة الأطفال
واستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلال
وصل عليه الصلاة والسلام على ناقته يقول أنس : [[والله الذي لا إله إلا هو ما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت الأنصار يبكون من الفرح لما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام ]].
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
النبي صلى الله عليه وسلم يحيي قبائل الأنصار
ووقف الرسول عليه الصلاة والسلام يحيي القبائل قبيلة قبيلة، يأخذون زمام ناقته ليكون ضيفهم فيقول: { دعوها فإنها مأمورة فإذا هبطت الناقة في مكان فأنا معها، فيمر ببني بياضة فيخرجون بالسيوف والموت يقطر من عيونهم نصرة لله ولرسوله، فيقولون: أنت ضيفنا قال: دعوها فإنها مأمورة، ويشير لهم ويتبسم لهم، ويشكرهم، ويمر ببني عمرو بن عوف وقد اصطفوا على جنبات الطرق يحيونه قالوا: أنت ضيفنا قال: دعوها فإنها مأمورة، وتخترق الصفوف وتمر إلى أن تأتي بني النجار فيخرج أطفال بني النجار يقولون:
نحن بني النجار يا مرحباً بالجار
أو كما قالوا في نشيدهم، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، ويُرفع له الأطفال على ناقته فيقبلهم ويتركهم صلى الله عليه وسلم -لكنه أسر قلوبهم فلا تعود لهم أبداً- ثم أناخت الناقة في مكان مسجده الآن، ولما أناخت انتظر قليلاً ولم ينـزل من على ظهرها، فقامت ثم مضت قليلاً ثم رجعت إلى مكانها فناخت وبركت ونزل عليه الصلاة والسلام }.
شهيد القسطنطينية مع النبي صلى الله عليه وسلم
ولما نزل سارع هذا الشيخ الذي قتل في أرض الروم إلى متاع الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى ملابسه وما عنده من شيء على الناقة فأخذه، فقال بنو النجار: عندنا يا رسول الله أنت ضيفنا قال: لا. الرجل مع رحله فذهب وراء الشيخ الذي هو أبو أيوب الأنصاري ووصل معه إلى البيت فقال: يا رسول الله! عندي هذا البيت سفلى وعليه، اسكن في الأعلى وأنا هنا في الأسفل قال صلى الله عليه وسلم: أريد أن أكون قريباً من الناس وقريباً من المسجد فأريد هذا، يريد الأرضي فأسكنه وصعد أبو أيوب الأنصاري وزوجته الطاهرة النقية الشريفة إلى الدور الأعلى، وأتى وقت النوم فأخذ يتقلب أبو أيوب الأنصاري كأنه يتقلب على الرمضاء لا ينام قالت له زوجته: مالك يا أبا أيوب لا تنام؟ قال: والله ما أتاني النوم كيف أنام في العلو والرسول عليه الصلاة والسلام تحتنا، وفي الصباح حاول أبو أيوب أن يقنع الرسول عليه الصلاة والسلام فأبى، كان الطعام يقدم لـأبي أيوب فيرفع يده وترفع زوجته يدها ويقولان: والله لا نأكل حتى يأكل الرسول عليه الصلاة والسلام فينـزل بالصحفة ويقدم الثريد، ويشوي اللحم، ويضيف النبي صلى الله عليه وسلم أحسن ضيافة عرفها التاريخ.
وفي ليلة من الليالي يقوم أبو أيوب ليصلي فيقع في جرة الماء فتنكسر فينصب الماء في الأرض وينسكب في الأرض، فيأخذ شملته وينشف بها الأرض لئلا يتصبب الماء على المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم يقول: يا رسول الله! أسألك بالله أن تصعد في العلو وأنا في السفلى فصعد عليه الصلاة والسلام، قدم له من الإكرام ما لم يقدمه عربي لعربي، ولا مسلم لإمام عظيم ولا مضيف لضيف، إذا أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرج قدم أبو أيوب حذاءه وألبسه في رجليه، يقف ليستقبله ويقف ليودعه، حول نفسه إلى طباخ في البيت يقدم جهده وعرقه وكل ما يملك ليفي بالضيافة، وحفظها له عليه الصلاة والسلام ولم يضيعها أبداً فكان يدعو له، ويتفقده، وكان يرى أنه الشيخ المبارك الذي أصبح فيه كل شيء أبيض، دينه ولحيته ورأسه ومبادؤه.......
يجوع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه فيأتون إلى أبي أيوب الأنصاري
وتستمر الأيام وفي بعض الروايات أنه المقصود بالقصة الآتية: يجوع عليه الصلاة والسلام لما انتقل إلى بيته ويحاصره الجوع فلا يجد في بيته عليه الصلاة والسلام لقمة ولا تمرة ولا قطعة تُؤكل، فيخرج عليه الصلاة والسلام إلى الطريق وإذا بـأبي بكر وعمر واقفان أمامه عليه الصلاة والسلام قال: ماذا أخرجكما الآن؟ قالا: والله يا رسول الله ما أخرجنا إلا الجوع قال: وأنا أخرجني الجوع -الذي حرر الجزيرة العربية وما جاورها وفتح الدنيا يجوع فلا يجد تمرة، ولا لقمة، ولا خبزة في بيته، الذي سلم مفاتيح الدنيا لأتباعه لا يجد كسرة في بيته!! قال: هيا بنا، وذهبوا جميعاً ودخلوا على أبي أيوب في مزرعته وكان غائباً وامرأته حاضرة، قال عليه الصلاة والسلام وهو يعرفها: أين أبو أيوب ؟ قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، فأتى أبو أيوب وإذا الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحباه على البساط.
هل هناك ضيوف في الدنيا أعظم من الثلاثة؟ هل سمعتم أن ثلاثة اجتمعوا منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أشرف من الثلاثة؟ لا. ماذا فعل أبو أيوب ؟ ألقى الماء والقربة وأخذ يبكي من الفرح وقال: مرحباً والله ما أحد أسعد مني ضيوفاً هذا اليوم، ثم ذهب يأخذ عذقاً من النخل ويذبح شاة ويشوي ويطبخ ويقدم فهو مضياف الإسلام، حظه في الضيافة أن يشبع خير بطن خلقها الله، وأن يروي خير كبد خلقها الله؛ كبد وبطن محمد عليه الصلاة والسلام.
خروج أبي أيوب لقتال الروم
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يموت كما يموت البشر، ومبادئ أبي أيوب لم تمت أبداً، بقي شاباً وهو في الثمانين، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن أصحابه سوف يركبون البحر غزاة في سبيل الله {دخل صلى الله عليه وسلم عند عجوز هي أم حرام بنت ملحان فنام عندها في الظهيرة ثم استفاق صلى الله عليه وسلم وهو يضحك قالت: ما لك يا رسول الله! أضحك الله سنك؟ قال: أناس من أمتي عرضوا علي يركبون البحر غزاة في سبيل الله كالملوك على الأَسِّرَةِ قالت: ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنتِ منهم } وتستمر الأيام وينادي المسلمون كتائب الإسلام أن تجاهد في سبيل الله لتفتح القسطنطينية لتغزو بلاد الروم ولتوسع دائرة الإسلام، ولما سمع أبو أيوب الجهاد والإعلان لبس سيفه، ورمحه، وركب بغلته. قال أبناؤه: أنت شيخ كبير في الثمانين.
حملت الثمانين الطوال مجاهداً كأنك في العشرين تقرا وتكتب
قال: لا. قالوا: عذرك الله أنت شيخ كبير، ومريض، ولا تستطيع القتال قال: لا والله. إن الله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41] وأنا ثقيل والله لأنفرن، وذهب إلى الجهاد وانظر إلى هذا العمر المبارك، أين كثير من أهل الثمانين الآن الذين حولوا آخر المطاف إلى شهادة الزور أو الاستيلاء على أراضي الفقراء؟
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
إذا مالم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما بال أشيب يستهويه شيطان
شيوخ كبار وما تابوا، والله عز وجل يوم القيامة لا ينظر إلى ثلاثة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم منهم {أشيمط زان } شيخ كبير ويزني، وتفاجأ بشيخ كبير ويسرق، وشيخ كبير ويحلف أيمان الغموس، وشيخ كبير يقطع الأرحام، وشيخ كبير يؤذي الجيران، وشيخ كبير يمشي بالنميمة بين الناس.
استشهاد أبي أيوب ودفنه تحت أسوار القسطنطينية
أما أبو أيوب فجعل الثمانين طاعة لله وركب مع الجيش وصعد على السفينة، وعبرت به البحر وهو ينشد نشيد الخلود: لا إله إلا الله محمد رسول لله، وتبدأ المعركة فيغتسل ويلبس أكفانه ويتطيب ويتحنط ويقول للمسلمين: أسألكم بالله إذا قتلت اليوم فالتمسوا آخر أرض من أراضي المسلمين تجاه الروم فادفنوني تحت أسوار القسطنطينية علَّ الله أن يبعثني يوم القيامة مؤمناً بين كافرين، يبعث يوم القيامة وحيداً مؤمناً بين كافرين، إذا قامت القيامة بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:9-10] خرج أبو أيوب من قبره ينفض التراب عن رأسه وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وبدأت المعركة فقاتل قتالاً مستميتاً وهو في الثمانين حتى قطع رأسه.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
قتل ودفن هناك، ومن وصل منكم هناك فليسلم عليه، وليبلغه سلام الأمة الإسلامية، وليقف على قبره طويلاً وليشكره على حسن الضيافة والاستقبال، وعلى حسن الحياة، وعلى حسن العطاء والفداء والتضحية، سلام عليك يا أبا أيوب الأنصاري من جزيرة العرب وجزاك الله خير ما جزى ولياً عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأحسن الله إليك أحسن ما أحسن مضيف إلى ضيفه، وجمعنا الله بك في دار الكرامة.
ذلكم هو شهيد القسطنطينية وهو من أجدادنا ومن أراد أن يمشي على منواله فما ذاك بعزيز، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الإسراف في الأعراس وصوره
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس! إنما وضع المنبر في كل جمعة لنتدارس أخطاءنا، ولنعود إلى حساباتنا، ولنرى مشاكلنا أمام العين، نحلها بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد أخطأنا جميعاً خطأً اجتماعياً مرت عليه سنوات، وقليل من ينبه عليه، وقليل من يستنكره، وقليل من يلاحظه، حتى كان سائداً بين الناس، وكأنه من الكتاب والسنة، وقد أضر هذا الخطأ الجم بكثير من الناس ألا وهو الإسراف في الزواج، ومن صور هذا الإسراف الذي لا يرضاه الإسلام الإسراف في صالات الأفراح، وفي الولائم التي يقوم بها الناس في وقت الزواج، وقد علمت من شباب كثير كيف أثقلهم هذا الفعل وكيف جعلهم يستدينون أموال الناس، عندهم قلة ذات يد وحاجة ملحة ولكن يرفض العرف الجاهلي إلا البَطَر والرياء والسمعة والإسراف.
تصوروا إلى شاب مقدم على حياة جديدة وبيت جديد، راتبه زهيد ودخله حقير، يريد زوجة يسكن إليها ويربي بيتاً إسلامياً، فأول ما يواجهه من العقبات صالة الأفراح، عشرون ذبيحة إلى ثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسين من أين يدفعها؟ يذهب إلى الناس يستجدي من أجل العرف الجاهلي الذي ما أنزل الله به من سلطان، فأين العقلاء وأهل الرأي، وأهل العلم، وأين القضاة والدعاة، وأين العلماء الذين يقفون أمام هذا الخطأ الفادح؟......
مضار الإسراف
إن هذا يجر أموراً خطيرة في الأمة منها: الإسراف الذي نهى الله عنه، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء:26-27] ثلاثون ذبيحة ترمى والفقراء في البادية وفي تهامة لا يجدون كسرة الخبز، ثلاثون ذبيحة ترمى والشعوب الإسلامية بعضها يأكل أوراق الشجر، ثلاثون ذبيحة ترمى للقطط والكلاب وكثير من المساجد لم تعمر من عشر سنوات، أليس هذا هو البطر بعينه قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ [الأنفال:47].
في العطلة الماضية في أبها وقع أكثر من اثنين وستين زواجاً كلها مغالاة، ومفاخرة، ومرءاة في صالة الأفراح، وعلمت من كثير ممن تزوج أنهم اقترضوا ديناً لتلك الوليمة، فهل يرضى الإسلام بهذا؟ وهل يقره المسلمون؟ إن العالم الكافر الآن أصبح يتعامل بالعقل في أموره الاجتماعية والاقتصادية، ويقننوا مساراته، ويعرف دخله وما يخرج ويعرف أموره النافعة من الضارة، ونحن أمة بالكتاب والسنة، فينا العلماء وأهل الرأي والأخيار والأبرار ونسكت بالإجماع عن هذا الخطأ.
ثم إن ذلك يورث -أيضاً- إحجام كثير من الشباب عن الزواج، إذا كانت هذه التكلفات من الشرعة، والوليمة، وإيجار الصالة، وكثرة الذبائح والحلي والمهر، فمن يجمع هذه لهذا الشاب حينها تقع العنوسة ويتوقف الشباب والشابات عن الزواج، وتقع أمور لا تحمد عقباها ولا يرضاها الله.
الحلول المقترحة تجاه الإسراف
إن الحل الأكبر هو فعل محمد عليه الصلاة والسلام، أن نفعل كما فعل -بأبي هو أمي- فهو أغلى الناس وأبرهم وأحلمهم أن نقتصد، ولا تساير الناس في أفكارهم ولا آرائهم بل عليك بما يرضي الله عز وجل، ففي الحديث {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضى الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس } وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فتزوج تسعاً من النسوة أو أكثر بعضهن لم يجد ذبيحة واحدة، وإنما قدم عيب عليكباً وشيئاً من شعير، وشيئاً من سويق فأكله الصحابة وتمضمضوا وقاموا يصلون، وزواج آخر وجد ذبيحة واحدةً جمع عليها أكثر من ثمانين من الصحابة، وكذلك أصحابه، لماذا ما تعمل هذه الحفلات في البيوت؟ لماذا لا نكتفي بالقرابة وبالزواج العائلي فقط؟ لماذا نأخذ أموال الناس ديناً في ظهورنا؛ لنباهي الناس ونرائيهم ونفاخرهم؟ أما تكفي الذبيحة والذبيحتان فحسب؟ أليس هذا هو العقل؟ أليس هذا هو الدين؟ وأليس هذا هو الترشيد؟ ومن عنده فائض من المال فمشاريع الخير وأبواب الجنة ثمانية يدخل بماله من أيها شاء من أي باب شاء، أما هذه الأموال التي يصرفها للرياء والسمعة فلا يكفي أن ينجو كفافاً لا له ولا عليه، بل يحاسب بها عند الله يوم القيامة فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36].
أيها المسلمون: لابد على أهل العقل من الناس أن يضعوا حداً معيناً، ويبدأ فيهم الرشيد منهم، فإنه من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من المتالف ومن الأخطاء والمخالفات الشرعية.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا } اللهم صل على نبيك وحبيبك واعرض عليه صلاتنا، وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد بين صفوفهم وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أصلح ولاة الأمور، اللهم وفقهم إلى الحق وإلى العمل بكتابك وبسنتك نبيك يارب العالمين، اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك ولرفع رايتك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ عائض القرنى
موقع الشبكة الإسلام