--------------------------------------------------------------------------------
َ(¯`•._الحيـاة..أمـل _.•´¯)ََََ
مــا ســر نـظراتـك؟
منهمكة في قراءة الكتاب الذي بين يديها، كعادتها، من ينظر إليها يجزم أنها في عالم آخر، لا تحس بمن يمر من أمامها و لا بالأحاديث التي تدور حولها.
اليوم هو السبت، وأمل متعودة في هذا اليوم على زيارة المكتبة،بعد أن تقوم باختيار ما ستقرئه، تغادرها لأنها تعتبر الجو بداخلها كئيب، تخرج لتجلس بالساحة التابعة للمكتبة، تحب أن تبدأ بقراءة أحد الكتب على صوت مياه النافورة التي تتوسط الساحة.
غالبا ما يكون المكان يعج بالأشخاص خصوصا بهذا اليوم، وغالبا ما يكون رواد هذه المكتبة من التلامذة و الطلاب، أي من جيل الشباب. وهذا ما يفسر الضوضاء و الضحكات التي تتعالى من وقت لآخر، فبعض الطلبة يستغلون هذه الساحة لاجتماعاتهم و أحاديثهم فقط.
وهذا ما كان يثير غضب أمل دائما. و كأن المدينة قد خلت من الأماكن التي يمكن لهؤلاء الشباب تبادل قصصهم فيها غير ساحة المكتبة، لذا قد تجد نظراتها أحيانا قد تركت صفحات الكتاب و توجهت لمجموعة من المستهترين كما تحب أن تسميهم، ونظراتها الحادة واضحة جدا، تكاد تنطق بكلمتين: أنتم مزعجون .ثم تعود لتنغمس في عالمها الخاص.
كثير من رواد المكتبة كانوا قد تعودوا على هذه الفتاة، صاحبة الطبع و الملامح الهادئة، التي تزور المكتبة كل يوم سبت، وتجلس في نفس المكان، ونادرا ما تخاطب أحدا.
اليوم وقع اختيار أمل على رواية رومانسية، كانت منسجمة معها كل الانسجام، وعيونها تلتهم الصفحات في نهم شديد.
لكن، هل تعرفون ذلك الإحساس الذي يخبركم أن هناك عيونا تراقبكم، ذلك ما أحست به أمل فرفعت رأسها ببطء..
لتقع عينيها على عيني ذاك الشاب، كان يتمعن فيها بكل اهتمام. وما أثار استغراب أمل أنه لم يرتبك لكونها لاحظت نظراته، بل ابتسم ابتسامة جانبية هادئة، وتبادل كلمتين مع فتاة جالسة معه، ثم عادت نظراته لتتمعنها بنفس الاهتمام.
أحست أمل بارتباك شديد ، فلم تجد غير أن ترجع لروايتها، هاربة من نظرات هذا الشخص الغريبة و المستفزة في نفس الوقت، لكنها لم تستطع التركيز ،وكأنها كانت ترى عينيه على صفحات الرواية ترمقها بنفس الطريقة، عيون سوداء عميقة، تجعلك تبحر رغما عنك في أعماقها..
ابتسمت أمل بسخرية على نفسها وهمهمت بصوت خافت: وما يهمني منه، فلينظر كما يشاء، لم أنا مرتبكة هكذا ..
وقبل أن تعاود محاولة تركيزها فيما تقرأ، أضاءت شاشة هاتفها النقال باتصال، بعد أن رأت اسم صديقتها سلمى ردت بسرعة : ألو .. نعم؟
جاءها صوت سلمى من الطرف الآخر صارخا :
أمل..أين أنتِ؟ لا تقولي لي ما زلت بالمكتبة.. ألم نتفق أن تمري علي اليوم..قد أخبرتك بحاجتــي إلى الذهاب لل..
قاطعتها أمل بعد أن غيرت نبرة صوتها قليلا: لحظة، لحظة يا آنسة.. بمن تتصلين؟؟
ردت سلمى بتردد: ألستِ أمل؟
حاولت أمل أن تكتم ضحكتها و هي ترد: من الممكن أن أكون أمل في حالة واحدة، وهي أن لا تصرخي و أنت تتحدثين معي، آلمتني أذني من حدة صراخك..
زادت حدة صراخ سلمى وقالت بغضب: كم أنت سخيفة.. أولا نسيتِ موعدك معي، ثانيا تستظرفين نفسك..أمل يا سخيفة أنا أنتظرك في منزلي أين أنت؟
ضحكت أمل على انفعال صديقتها، هي دائما تجعلها تنفعل وتستمتع بهذا كثيرا.
سلمى: وتضحكين أيضا..حسنا سيكون لي معك حديث طويل، لكن بعد أن تسرعي فأنا أنتظرك و أتوقع أن تكوني عندي في أقل من ربع ساعة..
توقفت أمل عن الضحك كي لا تثير غضب صديقتها أكثر و ردت: أنا لازلت بالمكتبة، ولن أستطيع الوصول لمنزلك في ربع ساعة، أنت من تستظرف نفسها الآن.
سلمى ولا زال صوتها يحمل نبرة غضب : لا أدري لما أحتملك و لم أنت بالذات صديقتي
أمل : لأنني محبوبة و أنت لا تستطيعين غير مصادقتي.
سلمى: أقسم أنك سخيفة..سأمر عليك بالمكتبة بعد قليل، سأطلب من سامي إيصالي بسيارته، ولربما يوافق على إيصالنا معا لوسط المدينة ..
أمل:لا يا سلمى، إلا أخوك سامي، لست في حالة تسمح لي باحتمال كلماته المزعجة و لا الشجار معه.
سلمى وهي تكاد تنفجر: أمل..أنت أساسا السبب في أنني سأرجوه الآن ليوصلني إليك، و أنت تعلمين أنه سيستغل الفرصة لإذلالي، ثم لست أملك الوقت لأنتظرك حتى تمري علي بالمنزل، و لا أن أنتظر سيارة أجرة توصلني إليك، وأنا بحاجة لأشياء كثيرة علي أن أشتريها اليوم، وقد وعدتني أننا سنتسوق اليوم، فكما ترين أنت المخطئة، لذا من الأفضل أن تصمتي و تنتظريني حيث أنت..واضح؟؟؟
ردت عليها أمل وهي تمثل الخوف: حسنا..أرعبتني.. سأنتظرك لكن أرجوك لا تتأخري،
ورمت بنظرة خاطفة إلي حيث يجلس ذاك الشاب، وجدته منشغلا بالحديث مع مجموعة من الفتيات،
ثم أكملت: لا أود البقاء هنا طويلا..
ضحكت سلمى أخيرا وقالت: أمل لا تود البقاء طويلا في المكتبة.. يا سبحان الله. حسنا سأتركك الآن ولن أتأخر.
وضعت أمل الهاتف في حقيبتها و عادت تنظر لذاك الشاب، ليست هذه هي أول مرة تراه فيها، هو أيضا من رواد المكتبة الدائمين.
و إن كان واضحا أن أسباب مجيئه هنا تختلف عن أسبابها، ابتسمت بسخرية وهي ترى تلك المجموعة من الفتيات التي تلتف حوله، ويبدو على كل واحدة منهن استمتاعها بالحديث معه، ولم تخف عليها نظرات الإعجاب بعيونهن.
مما جعلها تتساءل عن سبب هذا الاستمتاع، أتراه حديثه المهم و المشوق كما يظهر، أو مظهره الجذاب. انتبهت أمل لنفسها و أوقفت أفكارها وهي تستعجب اهتمامها المفاجئ به، صحيح هو شخصية من الصعب عدم ملاحظتها، وذلك لمظهره الجذاب و الأنيق، لكنها تراه دائما هنا، وكانت قد لاحظت أنه غالبا ما يكون محاطا بمجموعة من الفتيات لا يتغير أفرادها تقريبا، بالإضافة إلى شاب آخر،حاول مرة أن يحادثها لكنها لم تعطه اهتماما. هي لم تهتم لهم جميعا من قبل، من المؤكد أن طريقة نظره إليها اليوم، هي السبب في أفكارها و تساؤلاتها حوله. إذا فلا مبرر للتعجب ،الموضوع طبيعي و عادي جدا..
منذ أن صعدت أمل السيارة، و سلمى لم تنطق بحرف واحد، كانت تتابع الطريق من النافذة بوجوم، وأمل كانت تنظر إليها و هي مبتسمة، و لم تحاول الحديث معها، لأنها تعلم أن سلمى هي من ستضيق ذرعا من الصمت، وستتحدث بعد دقائق.
لكن سامي هو من تحدث حين لاحظ الصمت المخيم على أخته و صديقتها:
- ما بكما.. من الغريب أن تكونا معا و تلزما الصمت، هل وقعت مشكلة بينكما أم ماذا؟
سلمى لم تهتم بعبارته، أما أمل فرمقته ببراءة مصطنعة وكأنها تقول:ليست هناك أي مشكلة بالنسبة لي.
ضحك سامي على رد أمل الصامت وهو يقول:
- من فضلك هذه النظرات البريئة وفريها لغيري، فهي لا تخدعني يا أمل، قولي لي ماذا فعلت لأختي؟
ردت أمل باستنكار: أنا؟؟ أبدا ،لم أفعل شيئا !!
وأخيرا نطقت سلمى وهي تصرخ بوجه أمل :
- لم تفعلي شيئا غير أنك نسيتي أو تناسيتي أني طلبت منك أن لا تذهبي اليوم لتلك المكتبة، و أني بحاجه إليك لنتسوق معا، وقد وافقت، و اتصلت بك أمس ليلا لأذكرك لكن..
قاطعتها أمل:
- نعم أعلم، لكن قلت سأذهب لأحضر بعض الكتب ثم أمر عليك، لا أدري كيف داهمني الوقت حتى وجدتك تتصلين بي.
قال سامي ضاحكا:
- لو طلبت رأيي يا سلمى هذا ليس عذرا، صديقتك هذه لا تعيرك أي اهتمام وتفضل عليك الكتب..
رمته أمل بنظرات حانقة وهي تقول:- من فضلك، لم يطلب منك أحد التدخل أو إبداء الرأي..
هز سامي كتفيه وقال بلامبالاة :- أنا لم أخاطبكِ، أنا أبدي رأيي لأختي العزيزة وليس لك.
تجاهلت أمل عبارته وعادت تبتسم ببراءة لصديقتها وهي تقول:
- حسنا يا سلمى كيف تودين أن أكفر عن هذا الخطأ الكبير، الذي اقترفته في حق صديقتي ؟
ردت سلمى ببرود وكأنها لم تتأثر بأسلوب أمل في الحديث :
- ما يزعج أكثر أني لم أسمع منك حتى كلمة آسفة للآن.
ضحكت أمل على صديقتها وهي تقول:- آسفة..آسفة..آسفة
بدأ شبح الابتسامة يظهر على شفتي سلمى لكنها حاولت الاحتفاظ ببرودها وقالت : لا يكفي.
أمل: وما الذي سيكفي إذا؟
ابتسمت سلمى ابتسامة عريضة و هي تشير لخدها، فاقتربت منها أمل ضاحكة و عانقتها ثم طبعت قبلة على خدها.
استدار سامي إليهما قائلا : ستلتهمين أختي، أتركيها و شأنها...
ردت أمل بحنق: أتركنا أنت وشأننا و استدر و أنظر أمامك ستتسبب لنا في حادثة،أو على الأقل أوصلنا لمبتغانا، ثم تسبب فيما تريد من حوادث لنفسك.
لم تكد تنهي عبارتها حتى توقفت السيارة فجأة جعلتها تهتز بقوة في مكانها، وقبل أن تنطق بكلمة، وجدت سامي يفتح باب السيارة أمامها قائلا ببرود شديد : وها قد وصلتي..
ثم استدار لأخته وأكمل: لا تتأخري يا سلمى، فلن آتي لأصطحبكما إن تأخرتما ولم تجدا سيارة أجرة، مفهوم؟
ردت سلمى وهي مازالت أيضا مصدومة من طريقة توقفه بالسيارة: أولا لم يكن عليك أن تتوقف بهذا الشكل.. أرعبتني ، ثانيا أنت وهذه السخيفة- و أشارت لأمل- تتصرفان كالأطفال، و أظنه حان الوقت لتغيرا طريقة التعامل هذه، ثالثا قد أخبرت أمي أني لربما أتأخر، ولا تخشى شيئا لن أتصل بك لتصطحبنا، سنتدبر أمرنا.
فور أن نزلت الفتاتان من السيارة، انطلق سامي بها بسرعة مخيفة، جعلت كل من في الشارع يتابعه بذهول وهو يبتعد.
قالت سلمى و هي تمسك بيد أمل و تجذبها ناحية محل للملابس: لا أدري ما يحدث له أحيانا يتصرف بجنون
ردت أمل ساخرة: أحيانا ؟ !! أخوك هذا.. الجنون صفة ملازمة له..
سلمى : لا أدري، ولكن عليكما أن تغيرا أسلوب حديثكما معا، تتصرفان فعلا كالأطفال.
ردت أمل بملل متعمد لتقفل الحديث بهذا الموضوع : دعينا من هذا الكلام، فليس الأمر بيدي، هو من يجعلني أتحدث بهذه الطريقة بتصرفاته و كلماته المستفزة.
في هذه الأثناء كان سامي قد توقف بالسيارة على جانب أحد الشوارع، فقد شعر بضيق شديد ، كانت كلمات أمل تترد في ذهنه : أتركنا أنت وشأننا و استدر و أنظر أمامك ستتسبب لنا في حادثة، أو على الأقل أوصلنا لمبتغانا ثم تسبب فيما تريد من حوادث لنفسك.
كان يتساءل لم كلماتها جعلته يتضايق لهذه الدرجة، أ لأنها تعبر عن عدم خوفها عليه و اهتمامها به، ولم يتضايق من هذا؟ هذا الأمر معروف ومعلوم لديه.
أمل انتقلت للسكن بحيه وهي بنت العشر سنوات، وفور وصولها أصبحت هي و أخته صديقات، بل علاقتهما تتعدى الصادقة بكثير، هما كالأختين تماما.
حتى والديه ووالدي أمل أصبحت تجمعهم علاقة وطيدة،تحولت العائلتين تقريبا لعائلة واحدة، و أمل كان تقضي أغلب أوقاتها بمنزلهم ،لأنه يحتوي على حديقة واسعة تسمح لهم باللعب بحرية، ابتسم سامي وهو يتذكر كل الأحداث التي جرت بتلك الحديقة وهم صغار، هو يكبر أمل و سلمى بثلاث سنوات، لكنه كان يفضل اللعب معهما على اللعب مع أولاد حيه، بالأحرى ليس اللعب معهما لكن مضايقتهما باستمرار، وخصوصا أمل، كان لا يفارقها،كظلها تماما. ويتفنن في طرق مضايقتها و إخافتها فيجعلها تبكي دائما، ودائما ما كان يتلقى التأنيب و العقاب من والديه ليتوقف عن مضايقتها، لكنه لم يتوقف أبدا، ولليوم لم يتوقف..
أدار سامي محرك السيارة ثم انطلق عائدا لمنزله، والابتسامة لم تفارقه وهو يحدث نفسه : نعم لازلت سامي الصغير الذي يحب مضايقة أمل ورؤية دموعها، صحيح هي أصبحت فتاة قوية، لم تعد تلك الطفلة الضعيفة، ولم أعد أرى تلك الدموع كالسابق، ولكن نظرتها لي هي هي لم تتغير، سامي المشاغب المزعج الذي عليها أن تبتعد عنه لتأمن شره. فلم أتساءل إذا عن سبب أسلوبها الفظ في التعامل معي، أنا من فرض ومنذ زمن هذا الأسلوب في التعامل بيننا، ثم لم أشغل نفسي بهذا، هل أريدها أن تغير رأيها بي؟ ولم قد أريدها أن تغيره؟؟
الأيام هي التي ستمنح سامي الأجوبة التي لم يعثر عليها الآن..
في المركز التجاري، كانت أمل قد بدأت تحس بالتعب من الانتقال بين محلات الملابس و الأحذية و والحلي والعطور...إلى آخره.
والمشكلة أن سلمى لا يبدو عليها أي تعب، بالعكس كلما اشترت شيئا، اكتشفت أنه لازال ينقصها أشياء، فتعود للبحث عن ما تريد في المحلات بكل نشاط و حماس. وهي تجر أمل وراءها جرا..
لم تستطع أمل المتابعة فتوقفت وهي تأن : سلمى كفاك ما اشتريت، قدماي تؤلمانني لن أستطيع متابعة السير..
ردت عليها سلمى من دون أن تلتفت إليها وهي تدقق النظر في الفساتين المعروضة على واجهة محل: - غدا صباحا سيغادر أحمد باريس، ويأتي عندنا ليراني، و لن يكون عندي الوقت بعدها للتسوق، تعلمين أن حفل زفافنا بعد أسبوعين، وبعدها سنسافر، وأنا للآن لم أبتع كل احتياجاتي..
ابتسمت أمل ابتسامة ذات معنى وهي تقول:
- جيد، من المؤكد أنكما ستخرجان سويا..فلم لا تؤجلين شراء بضعة أشياء حتى يكون معك ويساعدك في الاختيار، رأيه مهم أيضا كما تعلمين..
ردت سلمى و هي تهم بالدخول للمحل:- لا..هو لا يحب التسوق، خصوصا معي..
مطت أمل شفتيها وقالت باستسلام وهي تتبعها لداخل المحل:
- لأنه يعلم أن التسوق معك من المهام الصعبة، قد تورمت قدماي من السير، وأنت لا تختارين شيئا بسهولة، علينا أن نطوف بكل المراكز التجارية حتى تجدي ما يرضيك، ثم لا أفهم لم تبتاعين كل هذا، بعد أسبوعين ستكونين بباريس، بإمكانك أن تجدي أشياء أجمل بكثير هناك..
أغمضت سلمى عينيها لثانية وهي تتمتم حالمة: كم أتمنى أن تمر الأيام بسرعة..
قاطعتها أمل ضاحكة: يا الهي !!! تحلي ببعض الحياء يا فتاة، إياك أن تتصرفي هكذا أمام أحمد، سيعلم أنك مجنونة به بهذه الطريقة، و قد لا يكون هذا لصالحك، يكفي انك تخليت عن متابعة الدراسة بالجامعة من أجله..
سلمى: هو يعلم أني مجنونة به و إن لم أقلها للآن بصراحة، وهذا لا يزيده إلا جنونا بي هو الآخر، فوفري نصائحك لنفسك يا متحذلقة، أتمنى أن أراك كيف ستتصرفين لو وقعت بحب أحدهم، سيكون أمرا يستحق المشاهدة..
َ(¯`•._الحيـاة..أمـل _.•´¯)ََََ
مــا ســر نـظراتـك؟
منهمكة في قراءة الكتاب الذي بين يديها، كعادتها، من ينظر إليها يجزم أنها في عالم آخر، لا تحس بمن يمر من أمامها و لا بالأحاديث التي تدور حولها.
اليوم هو السبت، وأمل متعودة في هذا اليوم على زيارة المكتبة،بعد أن تقوم باختيار ما ستقرئه، تغادرها لأنها تعتبر الجو بداخلها كئيب، تخرج لتجلس بالساحة التابعة للمكتبة، تحب أن تبدأ بقراءة أحد الكتب على صوت مياه النافورة التي تتوسط الساحة.
غالبا ما يكون المكان يعج بالأشخاص خصوصا بهذا اليوم، وغالبا ما يكون رواد هذه المكتبة من التلامذة و الطلاب، أي من جيل الشباب. وهذا ما يفسر الضوضاء و الضحكات التي تتعالى من وقت لآخر، فبعض الطلبة يستغلون هذه الساحة لاجتماعاتهم و أحاديثهم فقط.
وهذا ما كان يثير غضب أمل دائما. و كأن المدينة قد خلت من الأماكن التي يمكن لهؤلاء الشباب تبادل قصصهم فيها غير ساحة المكتبة، لذا قد تجد نظراتها أحيانا قد تركت صفحات الكتاب و توجهت لمجموعة من المستهترين كما تحب أن تسميهم، ونظراتها الحادة واضحة جدا، تكاد تنطق بكلمتين: أنتم مزعجون .ثم تعود لتنغمس في عالمها الخاص.
كثير من رواد المكتبة كانوا قد تعودوا على هذه الفتاة، صاحبة الطبع و الملامح الهادئة، التي تزور المكتبة كل يوم سبت، وتجلس في نفس المكان، ونادرا ما تخاطب أحدا.
اليوم وقع اختيار أمل على رواية رومانسية، كانت منسجمة معها كل الانسجام، وعيونها تلتهم الصفحات في نهم شديد.
لكن، هل تعرفون ذلك الإحساس الذي يخبركم أن هناك عيونا تراقبكم، ذلك ما أحست به أمل فرفعت رأسها ببطء..
لتقع عينيها على عيني ذاك الشاب، كان يتمعن فيها بكل اهتمام. وما أثار استغراب أمل أنه لم يرتبك لكونها لاحظت نظراته، بل ابتسم ابتسامة جانبية هادئة، وتبادل كلمتين مع فتاة جالسة معه، ثم عادت نظراته لتتمعنها بنفس الاهتمام.
أحست أمل بارتباك شديد ، فلم تجد غير أن ترجع لروايتها، هاربة من نظرات هذا الشخص الغريبة و المستفزة في نفس الوقت، لكنها لم تستطع التركيز ،وكأنها كانت ترى عينيه على صفحات الرواية ترمقها بنفس الطريقة، عيون سوداء عميقة، تجعلك تبحر رغما عنك في أعماقها..
ابتسمت أمل بسخرية على نفسها وهمهمت بصوت خافت: وما يهمني منه، فلينظر كما يشاء، لم أنا مرتبكة هكذا ..
وقبل أن تعاود محاولة تركيزها فيما تقرأ، أضاءت شاشة هاتفها النقال باتصال، بعد أن رأت اسم صديقتها سلمى ردت بسرعة : ألو .. نعم؟
جاءها صوت سلمى من الطرف الآخر صارخا :
أمل..أين أنتِ؟ لا تقولي لي ما زلت بالمكتبة.. ألم نتفق أن تمري علي اليوم..قد أخبرتك بحاجتــي إلى الذهاب لل..
قاطعتها أمل بعد أن غيرت نبرة صوتها قليلا: لحظة، لحظة يا آنسة.. بمن تتصلين؟؟
ردت سلمى بتردد: ألستِ أمل؟
حاولت أمل أن تكتم ضحكتها و هي ترد: من الممكن أن أكون أمل في حالة واحدة، وهي أن لا تصرخي و أنت تتحدثين معي، آلمتني أذني من حدة صراخك..
زادت حدة صراخ سلمى وقالت بغضب: كم أنت سخيفة.. أولا نسيتِ موعدك معي، ثانيا تستظرفين نفسك..أمل يا سخيفة أنا أنتظرك في منزلي أين أنت؟
ضحكت أمل على انفعال صديقتها، هي دائما تجعلها تنفعل وتستمتع بهذا كثيرا.
سلمى: وتضحكين أيضا..حسنا سيكون لي معك حديث طويل، لكن بعد أن تسرعي فأنا أنتظرك و أتوقع أن تكوني عندي في أقل من ربع ساعة..
توقفت أمل عن الضحك كي لا تثير غضب صديقتها أكثر و ردت: أنا لازلت بالمكتبة، ولن أستطيع الوصول لمنزلك في ربع ساعة، أنت من تستظرف نفسها الآن.
سلمى ولا زال صوتها يحمل نبرة غضب : لا أدري لما أحتملك و لم أنت بالذات صديقتي
أمل : لأنني محبوبة و أنت لا تستطيعين غير مصادقتي.
سلمى: أقسم أنك سخيفة..سأمر عليك بالمكتبة بعد قليل، سأطلب من سامي إيصالي بسيارته، ولربما يوافق على إيصالنا معا لوسط المدينة ..
أمل:لا يا سلمى، إلا أخوك سامي، لست في حالة تسمح لي باحتمال كلماته المزعجة و لا الشجار معه.
سلمى وهي تكاد تنفجر: أمل..أنت أساسا السبب في أنني سأرجوه الآن ليوصلني إليك، و أنت تعلمين أنه سيستغل الفرصة لإذلالي، ثم لست أملك الوقت لأنتظرك حتى تمري علي بالمنزل، و لا أن أنتظر سيارة أجرة توصلني إليك، وأنا بحاجة لأشياء كثيرة علي أن أشتريها اليوم، وقد وعدتني أننا سنتسوق اليوم، فكما ترين أنت المخطئة، لذا من الأفضل أن تصمتي و تنتظريني حيث أنت..واضح؟؟؟
ردت عليها أمل وهي تمثل الخوف: حسنا..أرعبتني.. سأنتظرك لكن أرجوك لا تتأخري،
ورمت بنظرة خاطفة إلي حيث يجلس ذاك الشاب، وجدته منشغلا بالحديث مع مجموعة من الفتيات،
ثم أكملت: لا أود البقاء هنا طويلا..
ضحكت سلمى أخيرا وقالت: أمل لا تود البقاء طويلا في المكتبة.. يا سبحان الله. حسنا سأتركك الآن ولن أتأخر.
وضعت أمل الهاتف في حقيبتها و عادت تنظر لذاك الشاب، ليست هذه هي أول مرة تراه فيها، هو أيضا من رواد المكتبة الدائمين.
و إن كان واضحا أن أسباب مجيئه هنا تختلف عن أسبابها، ابتسمت بسخرية وهي ترى تلك المجموعة من الفتيات التي تلتف حوله، ويبدو على كل واحدة منهن استمتاعها بالحديث معه، ولم تخف عليها نظرات الإعجاب بعيونهن.
مما جعلها تتساءل عن سبب هذا الاستمتاع، أتراه حديثه المهم و المشوق كما يظهر، أو مظهره الجذاب. انتبهت أمل لنفسها و أوقفت أفكارها وهي تستعجب اهتمامها المفاجئ به، صحيح هو شخصية من الصعب عدم ملاحظتها، وذلك لمظهره الجذاب و الأنيق، لكنها تراه دائما هنا، وكانت قد لاحظت أنه غالبا ما يكون محاطا بمجموعة من الفتيات لا يتغير أفرادها تقريبا، بالإضافة إلى شاب آخر،حاول مرة أن يحادثها لكنها لم تعطه اهتماما. هي لم تهتم لهم جميعا من قبل، من المؤكد أن طريقة نظره إليها اليوم، هي السبب في أفكارها و تساؤلاتها حوله. إذا فلا مبرر للتعجب ،الموضوع طبيعي و عادي جدا..
منذ أن صعدت أمل السيارة، و سلمى لم تنطق بحرف واحد، كانت تتابع الطريق من النافذة بوجوم، وأمل كانت تنظر إليها و هي مبتسمة، و لم تحاول الحديث معها، لأنها تعلم أن سلمى هي من ستضيق ذرعا من الصمت، وستتحدث بعد دقائق.
لكن سامي هو من تحدث حين لاحظ الصمت المخيم على أخته و صديقتها:
- ما بكما.. من الغريب أن تكونا معا و تلزما الصمت، هل وقعت مشكلة بينكما أم ماذا؟
سلمى لم تهتم بعبارته، أما أمل فرمقته ببراءة مصطنعة وكأنها تقول:ليست هناك أي مشكلة بالنسبة لي.
ضحك سامي على رد أمل الصامت وهو يقول:
- من فضلك هذه النظرات البريئة وفريها لغيري، فهي لا تخدعني يا أمل، قولي لي ماذا فعلت لأختي؟
ردت أمل باستنكار: أنا؟؟ أبدا ،لم أفعل شيئا !!
وأخيرا نطقت سلمى وهي تصرخ بوجه أمل :
- لم تفعلي شيئا غير أنك نسيتي أو تناسيتي أني طلبت منك أن لا تذهبي اليوم لتلك المكتبة، و أني بحاجه إليك لنتسوق معا، وقد وافقت، و اتصلت بك أمس ليلا لأذكرك لكن..
قاطعتها أمل:
- نعم أعلم، لكن قلت سأذهب لأحضر بعض الكتب ثم أمر عليك، لا أدري كيف داهمني الوقت حتى وجدتك تتصلين بي.
قال سامي ضاحكا:
- لو طلبت رأيي يا سلمى هذا ليس عذرا، صديقتك هذه لا تعيرك أي اهتمام وتفضل عليك الكتب..
رمته أمل بنظرات حانقة وهي تقول:- من فضلك، لم يطلب منك أحد التدخل أو إبداء الرأي..
هز سامي كتفيه وقال بلامبالاة :- أنا لم أخاطبكِ، أنا أبدي رأيي لأختي العزيزة وليس لك.
تجاهلت أمل عبارته وعادت تبتسم ببراءة لصديقتها وهي تقول:
- حسنا يا سلمى كيف تودين أن أكفر عن هذا الخطأ الكبير، الذي اقترفته في حق صديقتي ؟
ردت سلمى ببرود وكأنها لم تتأثر بأسلوب أمل في الحديث :
- ما يزعج أكثر أني لم أسمع منك حتى كلمة آسفة للآن.
ضحكت أمل على صديقتها وهي تقول:- آسفة..آسفة..آسفة
بدأ شبح الابتسامة يظهر على شفتي سلمى لكنها حاولت الاحتفاظ ببرودها وقالت : لا يكفي.
أمل: وما الذي سيكفي إذا؟
ابتسمت سلمى ابتسامة عريضة و هي تشير لخدها، فاقتربت منها أمل ضاحكة و عانقتها ثم طبعت قبلة على خدها.
استدار سامي إليهما قائلا : ستلتهمين أختي، أتركيها و شأنها...
ردت أمل بحنق: أتركنا أنت وشأننا و استدر و أنظر أمامك ستتسبب لنا في حادثة،أو على الأقل أوصلنا لمبتغانا، ثم تسبب فيما تريد من حوادث لنفسك.
لم تكد تنهي عبارتها حتى توقفت السيارة فجأة جعلتها تهتز بقوة في مكانها، وقبل أن تنطق بكلمة، وجدت سامي يفتح باب السيارة أمامها قائلا ببرود شديد : وها قد وصلتي..
ثم استدار لأخته وأكمل: لا تتأخري يا سلمى، فلن آتي لأصطحبكما إن تأخرتما ولم تجدا سيارة أجرة، مفهوم؟
ردت سلمى وهي مازالت أيضا مصدومة من طريقة توقفه بالسيارة: أولا لم يكن عليك أن تتوقف بهذا الشكل.. أرعبتني ، ثانيا أنت وهذه السخيفة- و أشارت لأمل- تتصرفان كالأطفال، و أظنه حان الوقت لتغيرا طريقة التعامل هذه، ثالثا قد أخبرت أمي أني لربما أتأخر، ولا تخشى شيئا لن أتصل بك لتصطحبنا، سنتدبر أمرنا.
فور أن نزلت الفتاتان من السيارة، انطلق سامي بها بسرعة مخيفة، جعلت كل من في الشارع يتابعه بذهول وهو يبتعد.
قالت سلمى و هي تمسك بيد أمل و تجذبها ناحية محل للملابس: لا أدري ما يحدث له أحيانا يتصرف بجنون
ردت أمل ساخرة: أحيانا ؟ !! أخوك هذا.. الجنون صفة ملازمة له..
سلمى : لا أدري، ولكن عليكما أن تغيرا أسلوب حديثكما معا، تتصرفان فعلا كالأطفال.
ردت أمل بملل متعمد لتقفل الحديث بهذا الموضوع : دعينا من هذا الكلام، فليس الأمر بيدي، هو من يجعلني أتحدث بهذه الطريقة بتصرفاته و كلماته المستفزة.
في هذه الأثناء كان سامي قد توقف بالسيارة على جانب أحد الشوارع، فقد شعر بضيق شديد ، كانت كلمات أمل تترد في ذهنه : أتركنا أنت وشأننا و استدر و أنظر أمامك ستتسبب لنا في حادثة، أو على الأقل أوصلنا لمبتغانا ثم تسبب فيما تريد من حوادث لنفسك.
كان يتساءل لم كلماتها جعلته يتضايق لهذه الدرجة، أ لأنها تعبر عن عدم خوفها عليه و اهتمامها به، ولم يتضايق من هذا؟ هذا الأمر معروف ومعلوم لديه.
أمل انتقلت للسكن بحيه وهي بنت العشر سنوات، وفور وصولها أصبحت هي و أخته صديقات، بل علاقتهما تتعدى الصادقة بكثير، هما كالأختين تماما.
حتى والديه ووالدي أمل أصبحت تجمعهم علاقة وطيدة،تحولت العائلتين تقريبا لعائلة واحدة، و أمل كان تقضي أغلب أوقاتها بمنزلهم ،لأنه يحتوي على حديقة واسعة تسمح لهم باللعب بحرية، ابتسم سامي وهو يتذكر كل الأحداث التي جرت بتلك الحديقة وهم صغار، هو يكبر أمل و سلمى بثلاث سنوات، لكنه كان يفضل اللعب معهما على اللعب مع أولاد حيه، بالأحرى ليس اللعب معهما لكن مضايقتهما باستمرار، وخصوصا أمل، كان لا يفارقها،كظلها تماما. ويتفنن في طرق مضايقتها و إخافتها فيجعلها تبكي دائما، ودائما ما كان يتلقى التأنيب و العقاب من والديه ليتوقف عن مضايقتها، لكنه لم يتوقف أبدا، ولليوم لم يتوقف..
أدار سامي محرك السيارة ثم انطلق عائدا لمنزله، والابتسامة لم تفارقه وهو يحدث نفسه : نعم لازلت سامي الصغير الذي يحب مضايقة أمل ورؤية دموعها، صحيح هي أصبحت فتاة قوية، لم تعد تلك الطفلة الضعيفة، ولم أعد أرى تلك الدموع كالسابق، ولكن نظرتها لي هي هي لم تتغير، سامي المشاغب المزعج الذي عليها أن تبتعد عنه لتأمن شره. فلم أتساءل إذا عن سبب أسلوبها الفظ في التعامل معي، أنا من فرض ومنذ زمن هذا الأسلوب في التعامل بيننا، ثم لم أشغل نفسي بهذا، هل أريدها أن تغير رأيها بي؟ ولم قد أريدها أن تغيره؟؟
الأيام هي التي ستمنح سامي الأجوبة التي لم يعثر عليها الآن..
في المركز التجاري، كانت أمل قد بدأت تحس بالتعب من الانتقال بين محلات الملابس و الأحذية و والحلي والعطور...إلى آخره.
والمشكلة أن سلمى لا يبدو عليها أي تعب، بالعكس كلما اشترت شيئا، اكتشفت أنه لازال ينقصها أشياء، فتعود للبحث عن ما تريد في المحلات بكل نشاط و حماس. وهي تجر أمل وراءها جرا..
لم تستطع أمل المتابعة فتوقفت وهي تأن : سلمى كفاك ما اشتريت، قدماي تؤلمانني لن أستطيع متابعة السير..
ردت عليها سلمى من دون أن تلتفت إليها وهي تدقق النظر في الفساتين المعروضة على واجهة محل: - غدا صباحا سيغادر أحمد باريس، ويأتي عندنا ليراني، و لن يكون عندي الوقت بعدها للتسوق، تعلمين أن حفل زفافنا بعد أسبوعين، وبعدها سنسافر، وأنا للآن لم أبتع كل احتياجاتي..
ابتسمت أمل ابتسامة ذات معنى وهي تقول:
- جيد، من المؤكد أنكما ستخرجان سويا..فلم لا تؤجلين شراء بضعة أشياء حتى يكون معك ويساعدك في الاختيار، رأيه مهم أيضا كما تعلمين..
ردت سلمى و هي تهم بالدخول للمحل:- لا..هو لا يحب التسوق، خصوصا معي..
مطت أمل شفتيها وقالت باستسلام وهي تتبعها لداخل المحل:
- لأنه يعلم أن التسوق معك من المهام الصعبة، قد تورمت قدماي من السير، وأنت لا تختارين شيئا بسهولة، علينا أن نطوف بكل المراكز التجارية حتى تجدي ما يرضيك، ثم لا أفهم لم تبتاعين كل هذا، بعد أسبوعين ستكونين بباريس، بإمكانك أن تجدي أشياء أجمل بكثير هناك..
أغمضت سلمى عينيها لثانية وهي تتمتم حالمة: كم أتمنى أن تمر الأيام بسرعة..
قاطعتها أمل ضاحكة: يا الهي !!! تحلي ببعض الحياء يا فتاة، إياك أن تتصرفي هكذا أمام أحمد، سيعلم أنك مجنونة به بهذه الطريقة، و قد لا يكون هذا لصالحك، يكفي انك تخليت عن متابعة الدراسة بالجامعة من أجله..
سلمى: هو يعلم أني مجنونة به و إن لم أقلها للآن بصراحة، وهذا لا يزيده إلا جنونا بي هو الآخر، فوفري نصائحك لنفسك يا متحذلقة، أتمنى أن أراك كيف ستتصرفين لو وقعت بحب أحدهم، سيكون أمرا يستحق المشاهدة..